لقد حان الوقت للضغط على النظام للسماح بتقديم المساعدات الإنسانية بشكل محايد في المناطق التي تخضع لسيطرته.
أفضَت الانتصارات العسكرية للنظام السوري خلال العام الماضي إلى تغيير جذري في ديناميات الصراع، وقد كانت المساعدات الإنسانية أحد الجوانب التي تأثّرت بشكل متزايد من جرّاء ذلك.
إن تحكُّمَ النظام الصارم بجميع الأنشطة الإنسانية في الأراضي التي تقع تحت سيطرته يسمح له بأن يقرر أين يتم إيصال المعونات وبواسطة من. وبالتالي، فإن العاملين في المجال الإنساني الذين يعملون في الأراضي غير الخاضعة لسيطرة النظام يواجهون معضلة تتمثّل في كيفية تقديم المساعدات في مناطق النظام دون تمكينه.
وهذا ليس مجرد سؤال يحتمل إجابتَين فقط ويتعلق إما بقبول شروط دمشق أو الاستمرار في العمل حصراً في المناطق غير الواقعة تحت سيطرة النظام. فكِلا الخيارَين لا يساعدان المدنيين العالقين في المناطق التي كانت تحت سيطرة الثوار والتي استعادها النظام أو يخففان القيود التي يفرضها هذا الأخير على عمل المساعدات أو قدرته على التلاعب بها.
لذلك فإن أفضل استراتيجية هي تطوير إطار جماعي لضمان تنفيذ جميع أعمال المساعدات داخل مناطق النظام بطريقة محايدة وغير متحيزة.
يعني الحياد كمبدأ عمل إنساني ألاَّ يسمح من هم في موقع المسؤولية للنزاع المسلح المحيط أو الأطراف المتحاربة بالتدخل في عمل المساعدات. غير أن الحال في سوريا ليست كذلك. لقد استمرت المنظمات الإنسانية العاملة في مناطق النظام بالسماح لدمشق بمراقبة عملها واستخدامها لتعزيز سلطتها.
فمنذ بداية النزاع، استخدم النظام قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 46/182، الذي يمنح الدولة المتأثرة الدورَ الأساسي في إدارة المساعدات الإنسانية داخل أراضيها، كأداة لتوجيه جميع الأعمال الإنسانية عبر دمشق والمنظمات المرتبطة بالدولة أو التي اختارتها. وعلاوةً على إجبار وكالات المعونة والعاملين فيها على تقديم طلبات للحصول على أذونات للقيام بأنشطتهم، تطلب وزارة الشؤون الخارجية من المنظمات التي تعتمد على شركاء التنفيذ المحليين اختيار شركائها من قائمة جهات وافق عليها النظام.
بالإضافة إلى ذلك، فإن اعتماد منظمات المساعدات الإنسانية على موافقة النظام، لأسباب أمنية، قد سمح للنظام بزيادة قدرته على التحكم بمسألة من يحصل على الإغاثة وكذلك أين ومتى. على سبيل المثال، منع النظام العاملين في المجال الإنساني المتمركزين في مناطق سيطرته من تقديم المساعدات في المناطق التي يسيطر عليها الثوار، الأمر الذي سمح له باستخدام المجاعة سلاحاً في الحرب.
رداً على ذلك، وافق البعض، مثل وكالات الأمم المتحدة، على الامتثال لقيود النظام من أجل خدمة الملايين من المدنيين الذين يعيشون في هذه المناطق. واتخذ آخرون القرار بالعمل فقط في المناطق غير الخاضعة لسيطرة النظام، إما من خلال عمليات الإغاثة عبر الحدود أو عن طريق الشركاء المحليين الذين لا يخضعون لضوابط لدمشق.
نفعت مثل هذه الترتيبات بصورة جيدة لفترة من الزمن، غير أنها لم تعد تعمل بفعالية اليوم بعد أن أصبحت غالبية الأراضي السورية تحت سيطرة النظام. وتشيرُ التقارير الواردة مؤخراً إلى أنَّ مئات الآلاف من السوريين في المناطق التي استعادتها القوات الحكومية هذا العام لا يزالون يعانون من نقص المساعدات الإنسانية. فوكالات الإغاثة غير المنظمة بموجب ضوابط دمشق، والتي قدَّمت المساعدة لهؤلاء الأشخاص طيلة سنوات، لم تعد قادرة على الوصول إليهم، في حين أن طلبات تدخُّل الوكالات التي تعمل انطلاقاً من دمشق تُقابَل بالرفض.
وهكذا تواجه الوكالات الإنسانية مرة أخرى نفس السؤال الذي كانت تتجنبه لسنوات: ما الذي يجب فعله لمساعدة المدنيين ولكن بدون مساعدة النظام؟
ينبغي أن ينصَبَّ التركيز على وضع إطار جديد لتنظيم طريقة توزيع المساعدات في مناطق النظام. ويجب أن يضمن هذا المبدأ التوجيهي التشغيلي أن تكون لدى الجهات الفاعلة في المجال الإنساني القدرة على تقديم المساعدة حيثما استدعت الحاجة، بصرف النظر عن أي اعتبارات سياسية. وبالمِثل، ينبغي السماح لهؤلاء الفاعلين باختيار شركائهم بِحرية على أساس الكفاءة بدلاً من ولائهم للنظام.
ولكي يكون هذا فعَّالاً، ينبغي أن يضع الإطار في الاعتبار التدابيرَ اللازمة لضمان حماية الشركاء المحليين. كذلك يجب مراجعة القوانين التي تُنظِّم عمل المنظمات السورية لضمان حصول تلك الجماعات على فرص منصفة. إن الوصول الكامل إلى جميع البيانات والأنشطة والمواقع مهم بنفس القدر لإنشاء عمليات مراقبة وتقييم مستقلة وموثوقة. على سبيل المثال، ينبغي للأمم المتحدة أن تطلب من المنظمات الشريكة لها أن تكشف عن شركائها في التعاقد من الباطن، لضمان عدم استفادة كيانات النظام الخاضعة للعقوبات من أموال الأمم المتحدة.
لن يكون إنفاذ مثل هذا الإطار مهمة سهلة، إلاَّ أنها ليست مستحيلةً أيضاً. ولا يمكن تنفيذ هذا المبدأ التوجيهي التشغيلي إلا إذا تمكنت جميع وكالات الأمم المتحدة وغيرها من المنظمات الإنسانية الدولية الرئيسية من بناء تحالف للضغط على النظام بشكل جماعي. إن الدول التي تموِّل المساعدات الإنسانية داخل سوريا هي الدول الرئيسية التي تحظى بالقدرة على بناء هذا التحالف وفرض هذا الإطار.
لقد حافَظَ العمل المتعلق بالمساعدات الإنسانية في سوريا على تدفق هائل من الأموال إلى اقتصاد النظام المضطرب، وهي فائدة لا ينبغي الاستهانة بها. وفقاً لتقرير رصد الاستجابة الإنسانية لعام 2018، هناك ما يقدر بنحو 13 مليون شخص من المحتاجين إلى المساعدة في جميع أنحاء البلاد، تعيش الغالبية العظمى منهم في مناطق النظام. وعلى المنوال نفسه، يشير تقرير غير منشور للمركز السوري لأبحاث السياسات إلى أن إجمالي النفقات الإنسانية للمجتمع الدولي في سوريا في عام 2017، بما في ذلك مصادر التمويل التابعة للأمم المتحدة وغير التابعة للأمم المتحدة تُقدَّرُ بما يعادل 35 في المائة من الناتج المحلي الإجمالي للبلد. بالإضافة إلى ذلك، فإن وقف الأعمال العدائية في مناطق النظام سيجعل من الأسهل الضغط على النظام لمنح العاملين في المجال الإنساني المزيد من سُبُلِ الوصول.
من المهم بصفة خاصة التوصل إلى إطارٍ كهذا وإنفاذه، نظراً لأن عدد الوكالات الإنسانية التي تفكر في العمل في المناطق التي يسيطر عليها النظام يزداد باطّراد. وبصورة مماثلة، فإن أهمية ضمان استقلالية وكالات الأمم المتحدة في سوريا لا تقتصر فقط على أعمال المساعدات التي تقوم بها هناك؛ إذ سيغدو الأمر أكثر أهمية عندما تصل أموال إعادة الإعمار، إذا كان لها أن تصل.