فقط عبر مجابهة معاناة كافة الأطراف يمكننا أن نفهم ما يحدث وما قد يأتي بعد..
لقد حطمت هجمات حماس على الإسرائيليين يوم السابع من أكتوبر الإجماع الإقليمي والدولي المتزايد حول خمول ثارات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي. كان العنف تذكيرا مروعا بأن التحول الإقليمي القائم على التكامل والتطبيع بين الدول العربية وبين إسرائيل – المتعادين منذ زمن بعيد – يظل مطلبا بعيد المنال.
عند مشاهدة وقراءة تحليلات أحداث هذا الشهر في الكثير من وسائل الإعلام الناطقة باللغة الإنجليزية، قد يظن البعض أن هجوم حماس يمثل نهاية لفترة من السلام قد سادت الصراع الفلسطيني الإسرائيلي.
فرئيس الوزراء الإسرائيلي السابق نفتالي بينيت وصف الهجوم “بغير المبرر”. بينما أصر وزير خارجية الظل للمملكة المتحدة ديفيد لامي على أن “هذه الأحداث قد بدأت يوم السبت”.
توحي تلك الادعاءات بوجود سلام ما قد تم خرقه بواسطة حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، لكنها تتجاهل الواقع الفلسطيني المتمثل في صراع لم يضع أوزاره في يوم من الأيام.
إن فهم هذا السياق لا يعني تبرير أفعال حماس، بل استكشاف جذورها. فكما صرح الأمين العام للأمم المتحدة أنطونيو غوتيريش فإن “هجمات حماس لم تحدث في فراغ”. جدير بالذكر أن إسرائيل قد رفضت تصريحات غوتيريش وطالبت باستقالته.
لطالما أصرت حكومة نتنياهو على أن صراعها مع الفلسطينيين هو تحت السيطرة. وبالفعل عاش العديد من الإسرائيليين حياة مستقرة نسبيًا، مصدقين أو متقبلين رواية حكومتهم عن “ما بعد الصراع”.
إلا أنه بالنسبة للفلسطينيين فقد كانت حياتهم وظروفهم المعيشية تزداد سوءًا. فبحلول سبتمبر/أيلول من هذا العام، وفقاً للأمم المتحدة، كانت القوات الإسرائيلية قد قتلت عدداً من الفلسطينيين في الضفة الغربية أكبر مما قتلته في أي عام منذ أن بدأت الأمم المتحدة في تسجيل الوفيات.
في تلك الأثناء، سادت عناوين الأخبار عن الشرق الأوسط ادعاءات الاستقرار الإقليمي، والتكامل الإقليمي، وتطبيع العلاقات – وهي اتفاقيات المصالحة بين إسرائيل والعديد من الدول العربية.
لكن هذا قد تجاهل أشكال العنف العديدة التي استمر الفلسطينيون في معايشتها. وبتجاهل تلك المعاناة وسعت تلك الروايات من النقطة العمياء التي نجحت في التغطية على جذور الصراع.
عنف بواسطة المستوطنين التوسعيين
إن فهم جذور الصراع يتطلب كذلك النظر في تصرفات إسرائيل التي انتهجت عنفا مباشرا في كثير من الأحيان – كقصف المدنيين، وتدمير البنى التحتية، والتهجير القسري لمئات الآلاف من منازلهم.
وفقًا لمنظمة بتسيلم، وهي منظمة إسرائيلية لحقوق الإنسان، في الفترة ما بين 9 ديسمبر 1987 و30 أبريل 2021، قُتل ما يقرب من 40 ألف شخص بسبب هذا العنف، وكان 87 في المائة من القتلى من الفلسطينيين.
أحد أشكال العنف الرئيسية في الأراضي الفلسطينية المحتلة، والتي تشمل الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس الشرقية، يتم بواسطة المستوطنين الإسرائيليين الذين يقومون بالتعاون مع الجيش الإسرائيلي بتهجير الفلسطينيين قسراً من منازلهم.
تشير تقديرات الأمم المتحدة إلى أن 670 ألف مواطن إسرائيلي يعيشون في 130 مستوطنة غير قانونية في الضفة الغربية والقدس الشرقية، وقد سجل هذا العام بالفعل رقماً قياسياً غير مسبوق في بناء المستوطنات في الضفة الغربية.
إن استيلاء المستوطنين الإسرائيليين على الأراضي، وبخاصة في المنطقة (ج) من الضفة الغربية (والتي تمثل حوالي 330 ألف هكتار من الأراضي)، ينتهك الترتيبات الانتقالية بموجب اتفاق أوسلو لعام 1993 الموقع بين إسرائيل ومنظمة التحرير الفلسطينية – وهي المجموعة الواسعة التي تعترف بها الدول الغربية باعتبارها ممثل الشعب الفلسطيني.
ويستطيع المستوطنون الاستيلاء على هذه الأراضي لأنهم مدعومون من الجيش الإسرائيلي، والقادة السياسيين الإسرائيليين، وكذلك من القضاء الإسرائيلي. وهو ما تشير إليه المقررة الخاصة للأمم المتحدة فرانشيسكا ألبانيزي بوصف الاستعمار الاستيطاني.
إن الحكومة الائتلافية الحالية بين نتنياهو وبن غفير قد تم التوصل إليها عبر اتفاق يجعل التوسع الاستيطاني في الضفة الغربية كأولوية.
وفي العام الماضي، قال المنسق الخاص للأمم المتحدة، تور فينيسلاند، إن “التوسع الاستيطاني الإسرائيلي يواصل تأجيج العنف في الأراضي الفلسطينية المحتلة ما يزيد من ترسيخ الاحتلال وتقويض حق الفلسطينيين في تقرير المصير وإقامة دولة مستقلة”.
قبل أشهر من هجوم حماس في السابع من أكتوبر/تشرين الأول، دخل مئات المستوطنين إلى قرية ترمسعيا في الضفة الغربية فهاجموا المنازل والسيارات وأضرموا النار فيها، وأطلقوا النار على السكان مما أدى إلى مقتل الشاب الفلسطيني عمر جبارة.
العنف الناتج عن العيش تحت الحصار
يموت الفلسطينيون كذلك من جراء أجهزة الحكم التي تصيغ حياتهم اليومية.
لقد عاش سكان غزة لمدة 16 عامًا تحت حصار وصفته الأمم المتحدة بأنه عمل غير قانوني من أعمال العقاب الجماعي الذي يجعل أرضهم “غير صالحة للعيش“.
وقد وصف أربعة من أصل خمسة مقررين خاصين للأمم المتحدة هذا الوضع بأنه فصل عنصري (أبارتهايد). رفضت إسرائيل هذا المصطلح، كذلك فعلت المفوضية الأوروبية، ولكنه أيضا تم استخدامه من قبل عدد من منظمات حقوق الإنسان الفلسطينية والإسرائيلية والدولية.
إن الحصار المفروض على غزة يقتل الناس عندما يحد من الإمدادات الطبية ويحرم من السفر الفلسطينيين الذين يحتاجون إلى الوصول إلى مستشفيات تعمل بشكل فعال. كما أنه يقتل الناس بتركهم عرضة للموت بسبب الأمراض الناجمة عن عدم القدرة على الوصول إلى المياه.
ويعيش أكثر من نصف سكان غزة تحت خط الفقر، ويعتمد 80 في المائة منهم على المساعدات الغذائية للبقاء على قيد الحياة. ويعاني ما يقرب من 50 في المائة من السكان من انعدام الأمن الغذائي بدرجة متوسطة أو شديدة. يموت الكثيرون بسبب الواقع المأزوم هيكليا الناجم عن الحصار الإسرائيلي.
وتجد المقررة الخاصة للأمم المتحدة ألبانيزي أن “الأراضي الفلسطينية المحتلة قد تحولت ككل إلى سجن مفتوح يخضع للرقابة المنتظمة. وأن سلطة الاحتلال قد صنفت الفلسطينيين باعتبارهم تهديدا أمنيا جماعيا غير قابل للسجن، ما أدى في نهاية المطاف إلى نزع المدنية عنهم، وبشكل أكثر تحديدا إلى تآكل وضعهم كأشخاص خاضعين للحماية”.
وتشكل هذه الحقائق دليلاً على ما يشار إليه أكاديمياً بالعنف الهيكلي – وهو الوضع المستمر الذي لا يؤدي إلى سقوط ضحايا بسبب الأسلحة وحدها، ولكن أيضاً كنتيجة غير العادل الذي يعيشه الفلسطينيون في المجتمع، على المستويين الاجتماعي والسياسي.
وهذا العنف الهيكلي هو السبب الرئيسي للصراع المستمر.
وقد جادل الباحثون بأنه عندما تنتشر عدم المساواة والفساد على نطاق واسع، تتضاعف احتمالية انهيار التسويات السياسية إلى شكل ما من أشكال المواجهة المسلحة.
ووجدت دراسة حديثة أجراها تشاتام هاوس أن التسويات السياسية في دول الشرق الأوسط وشمال أفريقيا لم تكن فعالة في ضمان الاستقرار المستدام لأنها لم تعالج العنف الهيكلي.
وقد أدى ذلك إلى تسويات سياسية قصيرة الأجل أو مهددة بانفجارات عنيفة.
كيفية تجاوز حلقات العنف
بالنسبة لإسرائيل، فإن الرد على مقتل أكثر من 1400 من مواطنيها باستخدام القوة العسكرية الساحقة، ووضع كامل غزة تحت الحصار لملاحقة حماس، وإغلاق الضفة الغربية، لن يعالج جذور الصراع المستمر.
ففي غضون ما يقرب من ثلاثة أسابيع، أدى القصف الإسرائيلي إلى قتل أكثر من 7000 فلسطيني، بما في ذلك أكثر من 2900 طفل، ودمر أحياء كاملة، وألحق أضراراً بأكثر من 165 ألف منزل، وترك 1.4 مليون فلسطيني في حالة نزوح – وهو ما يقرب من 75 في المائة من سكان غزة.
ولا يقتصر العنف على غزة فحسب، إذ قُتل مائة وعشرة أشخاص في الضفة الغربية. ويحذر سبعة من المقررين الخاصين للأمم المتحدة من أن الأعداد في غزة من المرجح أن تتزايد بشكل كبير، كما أن هذه الإجراءات تحمل تهديدا بالإبادة الجماعية.