منذ إقرار الدستور العراقي عام ٢٠٠٥، ظلّت المادة ٦٥ في انتظار “تنظيمها بقانون” أسوةً بالكثير من مواد الدستور المعطّلة، رغم أن هذه المادة قد تكون الحلّ لما يصطلح عليه أزمة الدولة في العراق، إذ تنصّ على إنشاء الغرفة التشريعية الثانية المكمّلة لدور مجلس النوّاب والمسماة “مجلس الاتحاد”. ومع إدراج مشروع قانون إنشاء هذا المجلس على جدول أعمال مجلس النواب للقراءة الأولى مطلع فبراير/شباط المنصرم، تثار الأسئلة عن الكيفية التي يمكن بها لمجلس الاتحاد أن يكون أداةً حقيقيةً لتحقيق الإصلاح دون التأثر بالجوانب السلبية التي رافقت عمل مجلس النواب خلال السنوات العشرين السابقة.
إن التفكير الجاد بإنشاء مؤسسةٍ تشريعية موازيةٍ لمجلس النواب العراقي، يستدعى وضع تجربة الأخير في الميزان، خصوصاً بعد تمريره العديد من القوانين المثيرة للجدل في دورته الحالية، ألا وهي قانون الأحوال الشخصية، وقانون العفو العام، وقانون عقارات الدولة، والتي مُرّرت جميعاً بما عرِف بـ “السلة الواحدة”. لقد امتدّ أثر تمرير تلك القوانين حتى إلى داخل السلطة القضائية عندما أثارت الخلاف بين مجلس القضاء الأعلى والمحكمة الاتحادية، بعد أن أصدرت الاخيرة أمراً ولائياً بإيقاف تنفيذ القوانين الثلاثة، ليردّ مجلس القضاء الأعلى بإصدار بيانٍ بعدم دستورية الأمر الولائي بحجّة عدم نشر القوانين في جريدة “الوقائع العراقية” الرسمية، ولتبطل المحكمة الاتحادية لاحقاً أمرها الولائي المذكور وتمرير القوانين.
لقد كشف هذا الإخفاق عن وجود أزمةٍ بنيويةٍ في النظام السياسي العراقي، القائم على المحاصصة والتوافقات، أزمةٌ أحد أسبابها تسييس مجلس النواب العراقي والمؤسسات الحكومية، سواءً لإرضاء القواعد الانتخابية “الزبائنية” أو لتعزيز سردياتٍ شعبوية لا تنسجم والوضع الحساس الذي يمرّ به العراق والمنطقة. ومع ضعف آليات المساءلة وتغوّل الفساد، فقد أظهر تمرير القوانين الثلاثة ضعف الدولة أمام الاصطفافات الطائفية، إذ وقفت الأحزاب الشيعية موقف الضد من قانون العفو العام بوصفه قانوناً سنياً، في حين أثار قانون الاحوال الشخصية الشيعي الهوية حفيظة المجتمع المدني والمنظمات الدولية بما تضمّنه من فقرات عدّ بعضها تشريعاً لتزويج القاصرات، ولم يخلُ قانون إعادة العقارات من الجدل مع ما أثاره من خلافاتٍ بين العرب والكرد حول قضايا الأملاك العقارية في محافظة كركوك.
الأدوار الإصلاحية لمجلس الاتحاد
في مناسباتٍ عدة، شدد رئيس البرلمان العراقي محمود المشهداني على فكرة مجلس الاتحاد واضعاً إياه على رأس اولوياته خلال هذه الدورة، وداعياً لقراءة مشروع قانونه قراءةً اولى على الأقل. نظرياً، يمكن لمجلس الاتحاد أن يكون جهةً رقابيةً فعالةً تتابع عمل مجلس النواب، بما يملكه من صلاحياتٍ لنقض ومراجعة القوانين التي يشرعها الأخير، بالإضافة إلى تمثيله المتوازن للأقاليم والمحافظات، إذ ينصّ مشروع قانون مجلس الاتحاد على أن يكون هناك ممثلان عن كل محافظة عراقية، بالإضافة إلى أربعة ممثلين عن العاصمة بغداد. تبرز أهمية مجلس الاتحاد من الناحية النظرية والاجرائية في هذا التمثيل الذي يقابله تمثيل مجلس النواب للشعب عامةً، وهذا بالتحديد ما تخشاه القوى السياسية لأنه قد يقوّض الكثير من التوافقات، سيما وأن مجلس الاتحاد لا يمثل الشارع الانتخابي بمفهومه الزبائني بل يمثّل القرار السيادي.
بالإضافة إلى ما سبق، يمكن لمجلس الاتحاد أن يضيف شيئاً من التكامل بين مؤسسات الدولة، عن طريق دعمه لرئاسة الجمهورية التي لطالما تمّ التجاوز على صلاحياتها المتعلّقة بتشريع القوانين، ففي حين تنصّ الفقرة ثالثاً من المادة ٧٣ من الدستور العراقي على أن يصادق رئيس الجمهورية على القوانين التي يسنّها مجلس النواب قبل نفاذها، يُكتب على بعض القوانين “يعتبر القانون نافذا ما إن يصدر عن مجلس النواب”. وفي حال أخذ مجلس الاتحاد دوره فأن هذا التكامل بين مؤسسات الدولة سيكون أحد عوامل استقرار البنية السياسية. ومن جهةٍ أخرى، سيكون لمجلس الاتحاد الإشراف على تطبيق المادتين ١٠٥ و١٠٦ من الدستور، واللتان تنظّمان حقوق الأقاليم. تنصّ المادة ١٠٥ على إنشاء هيئةٍ عامة لضمان حقوق الاقاليم والمحافظات غير المنتظمة بإقليم، وذلك للمشاركة العادلة في إدارة مؤسسات الدولة الاتحادية، في حين تنص المادة ١٠٦ على إنشاء هيئةٍ عامة لمراقبة تخصيص الواردات الاتحادية. إذا ما طبّقت هاتان المادتان، فسيصبح لمجلس الاتحاد سلطة حقيقية، ليس على المؤسسة التشريعية نفسها فحسب، بل والتنفيذية أيضا. سيصعّب هذا إجراء الصفقات السياسية التي قد تخرق الدستور بشكلٍ أو بآخر، أو تستهدف مكوناً دون غيره، ناهيك عن تحجيم الفساد المالي والإداري.
الضمانات والتحديات
لكنّ يبقى السؤال الأهم هو عن الضمانات المتوفرة لعدم استيراد تجارب الفشل السابقة إلى مجلس الاتحاد، إذ ما الفائدة من إضافة “مشكلةٍ” أخرى الى بنية المؤسسة التشريعية المضطربة والدولة بشكل عام؟
لا يمكن البتّ بوجود ضماناتٍ حقيقية، ويعود السبب في ذلك إلى افتقار الطبقة السياسية لأمرين مهمين: الالتزام بالدستور، والإرادة السياسية والوطنية بتحصين الدولة والنظام السياسي. يفرض هذا الأمر على الشعب والنخب العراقية توفير الحماية الحقيقية لمجلس الاتحاد إذا ما طمحوا فعلاً إلى الحفاظ على الدولة وتصحيح مسارها. قد يتطلب الأمر عقد مؤتمرٍ وطني شامل تشارك فيه النخب السياسية ومؤسسات المجتمع المدني وقادة المجتمع والأكاديميين لبحث طرائق تصحيح مسار النظام والخروج بوثيقة وطنية تمثّل عقداً سياسياً-اجتماعياً جديداً يؤكّد حرص النخب على تعزيز دور القانون والسيادة الوطنية ومحاربة الفساد.
ومع تعدّد التجارب الفاشلة التي مرّت بها التجربة العراقية منذ ٢٠٠٣ الى اليوم، يبرز إلى السطح سؤالٌ آخر يتعلق باحتمالية أن يكون مجلس الاتحاد ذاته أداةً أخرى بيد القوى السياسية، خصوصاً مع الوضع الإقليمي الحالي وجدية التهديدات التي يواجهها النظام العراقي. يمكن في هذا السياق اعتماد تجربة “المجالس التشريعية المفتوحة” في مجلس الاتحاد، والتي تضمن للجميع الاطلاع على طبيعة عمل المجلس والقوانين والتشريعات التي يعمل عليها. قد تساهم هذه الخطوة في ضمان تشكيل مؤسسةٍ رصينةٍ يستعصي على الفساد اختراق جنباتها.
الأثر السياساتي لمجلس الاتحاد
إذا ما شُكّل مجلس الاتحاد وفق رؤيةٍ واضحة، فقد يكون له أثر ملموسٌ في إعادة التوازن إلى العملية السياسية، إذ أن وجود مؤسسةٍ تراجع القوانين وتراقب أداء مجلس النواب، قد يحدّ من تمرير التشريعات وفق أجنداتٍ حزبيةٍ ضيقة. لكن هذا الدور لن يتحقق ما لم يحصل المجلس على صلاحياتٍ حقيقية، تشمل مراجعة قانون الموازنة العامة، وإمكانية نقضه، إضافة إلى حق التصويت أو الاعتراض على تعيين كبار المسؤولين في السلطتين التنفيذية والقضائية.
إن إنشاء مجلس الاتحاد ليس مجرد تعديلٍ شكلي في بنية النظام السياسي، بل يمكن أن يكون خطوةً نحو إصلاح أعمق إذا ما تم إشراك النخب السياسية والثقافية والمجتمع المدني في صياغة دوره وتحديد آلياته. فمع عقد المؤتمر الوطني المذكور يمكن أن يكون مجلس الاتحاد أداةً حقيقية للإصلاح، وليس مجرد مؤسسةٍ أخرى تخضع للمحاصصة والتجاذبات السياسية. يتوجّب أيضاً أن يكون للمجتمع الدولي دورٌ في دعم هذه الخطوة، سواء عبر الضغط على القوى السياسية لتنفيذ الإصلاحات، أو من خلال المساهمة في وضع آلياتٍ للرقابة والمساءلة.
في النهاية يبقى مصير مجلس الاتحاد مرتبطاً بوجود إرادةٍ سياسيةٍ حقيقيةٍ للإصلاح، ليكون نقطةً تحولٍ في المشهد السياسي العراقي. أمّا إذا أنشئ بنفس العقلية التي أدارت مجلس النواب للعقدين السابقين، فلن يكون إلا تعقيداً جديداً يضاف إلى تعقيدات المشهد السياسي، دون أن يسهم بحل حقيقي لأزمة الدولة ومعضلة تحقيق الإصلاح في العراق.
هذه المقالة جزءٌ من سلسلة مرصد الإصلاح التي ينشرها تشاتام هاوس، وتهدف إلى تقديم رؤى متعمقة حول المجريات الداخلية للحكومة العراقية، وتقييم ما يمكن للتطورات الأخيرة – المعلنة وتلك التي وراء الكواليس – أن تكشفه بشأن آفاق الوصول إلى دولة عراقية أكثر استقراراً وازدهاراً وخضوعاً للمساءلة. كما يهدف مرصد الإصلاح إلى تقديم توصيات سياساتية للحكومة العراقية وصنّاع القرار الدوليين والمنظمات المتعددة الأطراف والمنظمات غير الحكومية العاملة في العراق، بغية دعم عملية صنع القرار التي تسهم في بناء دولةٍ أكثر استقراراً ومساءلةً وازدهاراً.
وتأتي سلسلة مرصد الإصلاح هذه في إطار مسار العمل في الاقتصاد السياسي للإصلاح، ضمن مبادرة العراق في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي يقودها مدير مشروع المبادرة الدكتور ريناد منصور.