موازنةٌ حذرة: المنافسة بين تركيا وإيران في الجغرافيا السياسية الكردية إقليميّاً

بِحُكم الجغرافيا والتركيبة السكانية، سوف يظلُّ للسكان الأكراد دورهم في العلاقات بين تركيا وإيران. فكلا البلدين متَّهم بتهميش مجتمعاتهما الكردية واضطهادها، ومعارضة حق تقرير المصير للأكراد في الداخل وفي المنطقة. ولكنهما في الوقت نفسه يدعمان تكتيكياً الجماعات الكردية في البلدين المجاورين، العراق وسوريا، في حين أنهما يسعيان إلى تحقيق أفضلية استراتيجية في الجغرافيا السياسية الإقليمية.

وعليه، فإن الشؤون الكردية تُمثّل نقطة تماس حساسة بين أنقرة وطهران – وهي نقطة تتطلّب إدارةً حصيفةً من كل طرفٍ بُغية الموازنة بين التنافس على النفوذ والحاجة إلى تجنّب إثارة الاحتكاك مع الطرف الآخر.

وليست الجماعات الكردية طرفاً غائباً في هذا التنافس، فهي تسعى إلى الحصول على مكاسب خاصة بها من خلال التعامل البراغماتي مع أنقرة وطهران والحكومات الأخرى. وفي بعض الأحيان، يكون ذلك جزءاً من التنافس بين الجماعات الكردية؛ وفي أحيان أخرى، يكون وسيلة لدعم مصالحها ضد قوى الدولة المناوئة. وتشتدّ هذه الديناميات خلال فترات عدم الاستقرار، على غرار ما تشهده المنطقة الآن بسبب ضعف النفوذ الإقليمي لإيران وسقوط نظام الأسد في سوريا في كانون الأول/ديسمبر 2024. وإنّ تركيا وإيران تجازفان بتصعيد التوترات الثنائية إذا ما انخرطتا بعمق في السياسة الداخلية الكردية، لا سيما إذا لم تكن الجهات الفاعلة الأخرى مثل الدول الغربية حاضرة بنفس القدر لإبعادهما عما قد يتحوّل إلى منافسة صفرية.

الفناء الخلفي الكرديّ في تركيا وإيران: قمعٌ واعتراضٌ وتهدئة للأوضاع

تُشكّل المجتمعات الكردية في تركيا وإيران جزءاً كبيراً من الأكراد في الشرق الأوسط، البالغ عددهم 40 مليون كردي، بالإضافة إلى أقليات كبيرة في كلا البلدين. إذ يشكّل الأكراد قُرابة 20 في المئة من سكان تركيا و15 في المئة من سكان إيران. وتفرض كلتا الدولتين قيوداً صارمة على الحقوق السياسية والثقافية لمجتمعاتها الكردية، مما أدى إلى انتفاضات مسلحة ضد الدولة فيهما. ففي تركيا، يخوض حزب العمال الكردستاني منذ فترة طويلة تمرداً ضد أنقرة، أما في إيران، فالمعارضة الكردية مشتتة بين جماعات مختلفة، بما في ذلك الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني وحزب الحياة الحرة الكردستاني وحزب كومله. وتُحذّر كل من تركيا وإيران من أن التشدد الكردي يمكن أن يهدد وحدة أراضي الدولة وتصرّان على ضرورة اتخاذ تدابير أمنية صارمة لمنع النزعة الانفصالية.

وتتجنّب أنقرة وطهران بشكل عام دعم الجماعات الكردية المسلحة داخل حدود الطرف الآخر. ومن المُحتَمَل أن يكون الهدف من تساهل إيران المتواتر مع حزب العمال الكردستاني هو تشتيت انتباه تركيا واستخدامه كورقة مساومة في المحادثات. على سبيل المثال، نجا حزب الحياة الحرة الكردستاني – الذي تربطه علاقات وثيقة بحزب العمال الكردستاني – من حملة القمع الداخلية التي شنتها طهران على الجماعات الكردية في أعقاب احتجاجات عام 2022 التي اندلعت شرارتها بعد وفاة جينا ماشا أميني.

وفي تركيا، تشير التطورات الأخيرة إلى أن العلاقات مع الأكراد تدخل مرحلة جديدة. وقد دفعت الاعتبارات الداخلية، بما في ذلك جهود الرئيس رجب طيب أردوغان لتأمين دعم الناخبين الأكراد لولاية رابعة في منصبه، فضلاً عن تزايد خطر عدم الاستقرار والصراع الإقليمي، أنقرة إلى تقديم مبادرات لزعيم حزب العمال الكردستاني المسجون عبد الله أوجلان. وفي شباط/ فبراير 2025، دعا أوجلان حزب العمال الكردستاني إلى نزع سلاحه وحلّ نفسه، وتبعه الحزب في 12 أيار/ مايو بإعلانه حلّ نفسه. وإذا ما تحقق هذا التحول من جانب حزب العمال الكردستاني بعيداً عن الكفاح المسلح، فإنه سيؤدي إلى خفض التوترات في جنوب شرق تركيا وسيتيح لأنقرة تركيز الاهتمام على الأولويات الإقليمية، بما في ذلك المنافسة مع إيران. ومع ذلك، يجب على الدولة التركية الآن أيضاً أن تستجيب بطريقة ملموسة للمطالب السياسية والثقافية الكردية.

لعبة نفوذ راسخة في كردستان العراق

تتنافس تركيا وإيران بشكل أكثر حِدّة على النفوذ في المناطق الكردية في العراق، حيث تحافظان على علاقات سياسية وأمنية واقتصادية مع الحزبين الكرديين العراقيين الرئيسيين – الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني. ومع ذلك، فقد عارضت كلاهما استفتاء الاستقلال الذي أجري في عام 2017 في إقليم كردستان العراق، وهما تعطيان الأولوية لعلاقاتهما مع بغداد على علاقاتهما مع الجماعات الكردية.

ومن الناحية النظرية، يتقاسم ”الحزب الديمقراطي الكردستاني“ و”الاتحاد الوطني الكردستاني“ السلطة داخل حكومة إقليم كردستان، لكن علاقتهما متوترة ومختلة بشكل مطّرد. ومن المرجح أن يشكّل الحزبان حكومة لتقاسم السلطة في الأشهر المقبلة بناءً على برنامج حكومي جرى التفاوض عليه – لكن الاتفاقات السابقة انهارت مع مرور الوقت. ويخلق هذا الغموض مساحة للقوى الإقليمية للتدخل في السياسة الكردية العراقية.

وهناك وجهة نظر شائعة بين المسؤولين والمحللين الأجانب مفادها أن الحزب الديمقراطي الكردستاني متحالف مع تركيا ويعارض النفوذ الإقليمي لإيران، وأن الاتحاد الوطني الكردستاني أقرب إلى إيران ويتسامح مع وجود حزب العمال الكردستاني. ولئن كانت هناك أدلة كثيرة تدعم ذلك، إلا أن الواقع أكثر تعقيداً. فعلى الرغم من الخطاب العدائي، يتحلى كلا الحزبين بالبراغماتية ويحافظان على علاقات عمل مع أطراف متعددة، ويقومان بإجراء تعديلات وفق تغير الظروف.

ولنأخذ على سبيل المثال الهجوم الصاروخي الإيراني على أهداف في أربيل في كانون الثاني/يناير 2024، الذي أسفر عن مقتل أربعة مدنيين، من بينهم رجل أعمال بارز تابع للحزب الديمقراطي الكردستاني. وزعمت طهران أنه كان هجوماً على قاعدة إسرائيلية سرية، رغم أن السلطات الكردية والعراقية نفت ذلك. وقد أثار الحادث غضباً دولياً ودفع أربيل إلى مطالبة الولايات المتحدة بتزويدها بدفاعات جوية؛ إلا أن علاقات الحزب الديمقراطي الكردستاني مع طهران تحسّنت على مدار العام، وشملت زيارات متبادلة لمسؤولين رفيعي المستوى. ومرت ذكرى هجوم كانون الثاني/يناير دون تعليق من حكومة إقليم كردستان أو وسائل الإعلام، التي تتماشى إلى حد كبير مع رغبات المسؤولين في الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني.

ومن غير المرجح أن يثير تصالح الحزب الديمقراطي الكردستاني مع إيران قلق تركيا التي تثق بعلاقاتها القوية مع الحزب. كما أن العلاقة بين الاتحاد الوطني الكردستاني وتركيا متوترة في الوقت الحاضر، على الرغم من أنهما لا يزالان على اتصال، ولا يزال حل الإغلاق الحالي للمجال الجوي التركي أمام الرحلات الجوية من مطار السليمانية وإليه موضوعاً قيد النقاش. تؤكد هذه الديناميات المتغيرة على محدودية التبسيط في تحليل الجغرافيا السياسية الإقليمية في إقليم كردستان، لا سيّما في ما يتعلق بتركيا وإيران.

المنافسة الجديدة – وخطر امتدادها – في شمال شرق سوريا

نظراً لوتيرة التغيير السريعة في سوريا، فإن كردستان سوريا تُعدّ من أكثر الأماكن إثارة للاهتمام في رصد العلاقات التركية-الإيرانية. فمن الواضح أن تركيا في صعود واضح في البلاد برمّتها – وهو تحول حدث إلى حد كبير على حساب إيران. وتحتفظ كلتا الدولتين بعلاقات عدائية نسبياً مع السلطات التي يقودها الأكراد في الشمال الشرقي.

فتركيا، على وجه الخصوص، كانت معادية بلا هوادة. فهي تعارض إقامة منطقة كردية أخرى تتمتع بحكم ذاتي على حدودها الجنوبية وتعتبر قوات سوريا الديمقراطية (قسد) جزءاً من حزب العمال الكردستاني. وقد شنّت ثلاث عمليات عسكرية منفصلة ضد حزب العمال الكردستاني منذ عام 2016، كما أنها تشن بانتظام غارات جوية ضد البنية التحتية الحيوية والأهداف المدنية في شمال شرق سوريا. وفي الوقت الحاضر، تدعم أنقرة جهود المصالحة بين الأكراد وتبدو داعمة للمفاوضات بين السلطات الكردية والحكومة الجديدة في دمشق. ومع ذلك، فإن قائمة النتائج المقبولة لدى تركيا محدودة للغاية. فإذا أصبحت المطالب الكردية بالفيدرالية واللامركزية أكثر جرأة من اللازم من وجهة نظر أنقرة، أو إذا فشلت المحادثات في الحصول على موافقتها، فمن الممكن أن تشنّ عملية عسكرية جديدة. وهذا من شأنه أن يقوّض نفوذ الأكراد على دمشق من خلال إضعاف سيطرتهم على الأراضي. وفي الوقت نفسه، تعكف الولايات المتحدة في عهد الرئيس دونالد ترمب على سحب قواتها من سوريا. ومع مواجهة ترمب لقيود مؤسسية أقل بكثير مما كانت عليه خلال فترة ولايته الأولى، فإن الانسحاب الكامل للقوات الأميركية أمر وارد. ومن شأن ذلك أن يترك قوات سوريا الديمقراطية بمفردها إلى حد كبير.

في المقابل، حافظت إيران على انخراطها مع الأكراد السوريين ولكن من مسافة أمانٍ منذ عام 2011، إذ كانت تتعامل إلى حد كبير من خلال نظام الأسد أو المصالح العشائرية في دير الزور. ومع ذلك، ومنذ خسارة حليفها الأساسي في سوريا، هناك تكهنات بأن إيران ستسعى إلى إقامة علاقة براغماتية مع السلطات الكردية في الشمال الشرقي من أجل الحفاظ على إمكانية الوصول إلى بلاد الشام وكمواجهة للمصالح الموالية لتركيا في سوريا. وفي حين أنه لا يوجد دليل ملموس يذكر على هذا التحول، يبدو أن أنقرة عازمة على منع نشوء مثل هذه العلاقة. وقد نشرت وسائل الإعلام التركية بالفعل مزاعم بأن إيران تزوّد قوات سوريا الديمقراطية بطائرات مسيّرة – وهي مزاعم نفتها طهران بشدة.

لقد أدارت أنقرة وطهران حتى الآن العلاقات مع الأكراد في أراضيهما وفي العراق من خلال الاهتمام بمصالحهما الخاصة وتفادي المنافسة العلنية. إلا أن سوريا يمكن أن تعطل هذه الدينامية بالنظر إلى درجة الاضطراب وعدم الاستقرار في البلاد في الوقت الحاضر – على الرغم من أنه من السابق لأوانه معرفة ذلك.

التراجع الغربي والفرصة الإقليمية

لطالما تقاسمت تركيا وإيران المسرح مع الولايات المتحدة والحكومات الأوروبية في التأثير على الشؤون الكردية. وفي حين كان الدعم الغربي غير متناسق في كثير من الأحيان، إلا أنه وفّر للأكراد درجة من الدعم السياسي والاعتراف الجيوسياسي الذي حرمتهم منه أنقرة وطهران. وكان هذا الدعم عاملاً أساسياً في ظهور مؤسسات شبه مستقلة في العراق وسوريا.

ويبدو أن هذه الدينامية آخذة في التغير. إذ يتجه اهتمام الحكومات الغربية بشكل متزايد إلى مكان آخر، مما يمنح القوى الإقليمية مثل تركيا وإيران حرية أكبر في التحرك. وينطبق ذلك بشكل خاص على القضايا الكردية، التي غالباً ما يُساء تصويرها على أنها مسائل داخلية للدول ذات السيادة التي يعيش فيها الأكراد. وفي ظل انحسار الاهتمام الغربي، من المرجح أن يعيد القادة الأكراد البراغماتيون تركيز طاقاتهم السياسية على إيجاد السُّبل للعمل مع تركيا وإيران. وفي الوقت نفسه، يبدو أن دولاً أخرى مثل الصين تكثف لعبتها في أجزاء من كردستان من خلال زيادة نفوذ قوتها الناعمة.

ومع ذلك، لا يزال للغرب دور يلعبه. فالجهود التي بذلتها واشنطن مؤخراً للتوسط في التوصل إلى اتفاق بين الحزب الديمقراطي الكردستاني وقوات سوريا الديمقراطية تُظهر أنها لا تزال وسيطاً مفيداً للغاية. وبدلاً من السعي إلى أن تكون لاعباً شاملاً، يمكن للقوى الغربية أن تستخدم نفوذها وقدراتها التي لا تزال مهمة بطرق موجَّهة تهدف إلى تحقيق أقصى قدر من التأثير – مثل دعم إبرام اتفاقات للوحدة بين الأكراد في العراق وسوريا والإشراف على تنفيذها. ويمكن للحكومات الأوروبية، على وجه الخصوص، أن تزيد من تمويل التنمية الإنسانية والاقتصادية في المناطق الكردية، لا سيما وأن الولايات المتحدة تتراجع عن التزاماتها في ظل إدارة ترمب الجديدة.

ولن تؤدّي تلبية الاحتياجات المادية للأكراد العاديين في الداخل إلى الحد من الهجرة فحسب، وهو هدف رئيسي للسياسة في أوروبا، بل ستؤكد لهم أنهم لم يُنسوا. ويبقى الحضور الغربي الإيجابي في هذه المرحلة أمراً حاسماً – لا سيما في مقابل المقاربات الأكثر عدائية من جانب تركيا وإيران لمعظم الطموحات الكردية.

هذا المقال جزء من سلسلة مقالات لنقاش السياسات في إطار مشروع “العلاقات التركية-الإيرانية الآخذة في التطور وانعكاساتها على إعادة ترتيب المنطقة” التابع لشبكة مركز دراسات تركيا التطبيقية (CATS).

يتلقّى مركز دراسات تركيا التطبيقية (CATS) في المعهد الألماني للشؤون الدولية والأمنية (SWP)، تمويلاً من مؤسسة ميركاتور ووزارة الخارجية الاتحادية في ألمانيا. ويشرف مركز دراسات تركيا التطبيقية على شبكة مركز دراسات تركيا التطبيقية، وهي شبكة دولية من مراكز الأبحاث والمؤسسات البحثية العاملة في الشأن التركي.