بعد مرور ما يقرب من 15 عاماً على الربيع العربي، فإن البلدان التي شهدت تلك الثورات إمّا انزلقت مرة أخرى إلى قبضة الزعماء المستبدّين أو أنها تعاني من عدم استقرار كبير. وبالنسبة إلى أولئك الذين كانوا في طليعة الحركات الاحتجاجية التي دعت إلى إصلاحات واسعة النطاق، فإنّ العجز عن تحقيق أهداف الثورات قد دفعهم إلى الانكباب على التفكير في ما جرى.
وبُغيةَ فهمٍ أعمق لوجهات نظر أولئك الذين شاركوا في الحركات الاحتجاجية في جميع أنحاء منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، نظّم تشاتام هاوس سلسلة من الحوارات على مدار العام الماضي. وقد جمعت هذه الحوارات عشرات الناشطين، سواء الناشطين حالياً أو الذين نشطوا في السابق، إلى جانب باحثين وقيادات شابة متنوّعة وممثّلين عن المجتمع المدني من البلدان التي كانت جزءاً من الربيع العربي.
ومع الإقرار بالاختلافات بين كل سياق وآخر، حددت المناقشات ثلاثة دروس مشتركة ينبغي أن تتعلمها الحركات المستقبلية في المنطقة من أجل زيادة فُرص تحقيق أهدافها التي تتطلّع إلى نماذج أكثر شمولاً للحُكم، سواء الآن أو في المستقبل. أولاً، أخفقت الحركات الاحتجاجية في أن تتحوّل إلى مشاركة سياسية مستدامة، لا سيما من قِبل الشباب. وثانياً، أهملت الحركات الاحتجاجية السياسات الاقتصادية وصِلَتها بالحياة اليومية للمواطنين. أمّا ثالثاً، فقد نأت الحركات الاحتجاجية بنفسها عن المناقشات النقدية المتعلقة بالقطاع الأمني. وقد خلّف الإخفاقُ في المشاركة الفعّالة والجماعية في هذه المجالات إرثاً من الفرص الضائعة لا يزال أثره ملموساً بشِدّة حتى يومنا هذا.
غياب المشاركة السياسية المستدامة من قبل الشباب
من بين الإخفاقات الحاسمة للربيع العربي أنّ انخراط القادة الشباب في الحركات الاحتجاجية لم ينقلهم إلى المشاركة السياسية المستدامة خارج نطاق الاحتجاجات على مستوى الشارع. ولئِن كان للشباب دورٌ بارز في الاحتجاجات، إلَّا أنّ مشاركتهم في الحكم بعد الثورة كانت ضئيلة. في مؤتمر الحوار الوطني في اليمن والحكومة الانتقالية في السودان، على سبيل المثال، كان تمثيل الشباب رمزياً إلى حدٍّ كبير، مما حَدّ كثيراً من تأثيرهم على المشهد السياسي الأوسع. وفي مصر، طغى على حركة الشباب، التي كانت قوة دافعة في البداية، مجموعاتٌ أكثر تنظيماً مثل الإسلاميين والنخب التقليدية والجيش. ويُعزى ذلك في بعضٍ منه إلى انقسام المجموعات الشبابية عبر مختلف التصدّعات السياسية، ولكنه يرجع أيضاً إلى موقفهم المتعالي إزاء السياسة.
كان الإحجام عن الانخراط في السياسة اليومية عيباً أساسياً في حركات الربيع العربي. فغالباً ما أساء القادة الشباب تقدير الطابع التاريخيّ لأوضاعهم، مستهينين بضرورة معالجة قضايا الحكم اليومية البسيطة. وغالباً ما رفضوا الانخراط في شؤون السياسة اليومية باعتبارها “سياسة قذرة” لا ترقى إلى مستوى الأهداف الثورية للحركات الاحتجاجية. وقد أتاح الفشل في الانخراط للنخب التقليدية و/أو الميليشيات الإمساك بزمام المبادرة، وتوجيه الأحداث لصالحها.
على سبيل المثال، في مصر خلال اعتصام ميدان التحرير الذي استمر 18 يوماً، والذي تواصَلَ إلى أن تنحّى حسني مبارك عن منصبه رئيساً للجمهورية في 11 شباط/ فبراير 2011، عُقدت اجتماعات عديدة بين قادة الشباب وشخصيات مصرية ودولية بارزة. وقد عُقِد أحد هذه الاجتماعات في مبنى جامعة الدول العربية المطل على ميدان التحرير، حيث نصح الأمين العام للجامعة آنذاك، عمرو موسى، المجموعة بالنزول فوراً والبدء في تشكيل حزب سياسي من رحم الحشد الهائل. إلا أن “الثوار” رفضوا هذه النصيحة، مؤكدين أن هذا وقت الثورة وليس وقت السياسة.
عدم الاكتراث بالهواجس الاقتصادية اليومية
كانت الفجوة واسعة بين الأفكار التطلّعية التحويلية للحركات الاحتجاجية والظروف الاقتصادية اليومية التي وجد المواطنون أنفسهم فيها. فقد كانت الحركات الاحتجاجية تفتقر إلى إجابات للتحديات الآنية، وذلك ما قوّض فعاليتها في النقاش السياسي. فعلى سبيل المثال، فشلت الأحزاب السياسية التي تشكلت في أعقاب احتجاجات 2019 في العراق في تقديم استراتيجيات اقتصادية بديلة للقطاع العام المتضخم في البلاد. وبسبب الفساد الذي ترعاه السياسة، ارتفع عدد موظفي الخدمة المدنية العامة – الذين لا يساهم الكثير منهم سِوى بالحد الأدنى من حيث العمل الفعلي الذي يقومون به – منذ ذلك الحين بنحو مليون موظف. وقد جاءت هذه الزيادة لتُفاقِم أعباء الدولة الريعية والبيروقراطية المرهَقَة أصلاً، مما زاد من إجهاد النظام الاقتصادي العراقي.
كما أن الأجندات السياسية للاحتجاجات لم تولِ اهتماماً كافياً للقضايا الأخرى التي تؤثر بشكل واضح على سكان هذه البلدان. ولم تضع أي حركة من الحركات الاحتجاجية قضية التغير المناخي ضمن أولوياتها، على الرغم من تأثيرها الشديد، إذ أدَّت إلى مقتل وتشريد عشرات الآلاف في منطقة الشرق الأوسط وشمال أفريقيا. ولم تقترح أي منها رؤية تتضمن التغير المناخي في أدبيّاتها السياسية للمستقبل، كما لم تتبنَّ أيٌّ من الحركات استراتيجيةً للتخفيف من آثاره وبناء المنعة المناخية على طاولات المفاوضات في البلدان التي تمر بعمليات سلام. ومع أنّه ليس مطلباً بارزاً للمتظاهرين، إلّا أن تأثير التغيّر المناخي على حياة الناس أصبح اليوم أكثر وضوحاً من ذي قبل.
ولإحداث تغيير دائمٍ وتلبية احتياجات مجتمعاتهم تَلبيةً فِعليه، يتعيّن على الحركات الثورية المستقبلية أن تتبنى نهجاً متعدد الأوجه يعطي الأولوية للهموم الاقتصادية والاجتماعية للناس، وهو تركيز غالباً ما غاب عن أجندات الحركات السياسية السابقة. وتشمل بعض الأمثلة على ذلك الإصلاحات الاقتصادية التدريجية والحساسة، ومكافحة الفساد من خلال وضع قوانين وهياكل رقابية ناجعة، وسياسات الخدمات العامة، وسياسات الأمان الاجتماعي، ودمج الاقتصادات غير الرسمية ودعمها، وقضايا تغير المناخ والاستدامة، وحلول بيروقراطية الدولة المتضخمة. وكثيراً ما تُجوهِلَت هذه الشواغل، إذ انصبّ تركيز الحركات السابقة حصرياً على الإصلاحات المدنية والسياسية، وغاب عنها الطيف الأوسع من التغييرات اللازمة لتعزيز التنمية المستدامة والتحسين المجتمعي الحقيقي.
من خلال معالجة هذه الجوانب الرئيسية، يمكن للحركات الثورية المستقبلية أن تضع أجندة إصلاحية شاملة لا تعالج الأسباب الجذرية للسُّخط فحسب، بل تبني أيضاً قاعدة عريضة من الدعم بين المواطنين. كذلك يمكن أن يساعد هذا النهج في ضمان وجاهةِ الحركة وقدرتها على إحداث تغيير إيجابي دائم. يجب أن يركز الجيل القادم من القادة السياسيين على هذه المشاكل العملية، بما في ذلك تلك المتعلقة بالحوكمة وصنع السياسات، لبناء مستقبل مستقر وديمقراطي.
الفشل في إعادة صياغة علاقة المواطنين مع القطاع الأمني
كان من بين أهمّ هفواتِ الحركات الاحتجاجية في المنطقة إخفاقُها في الانخراط في المناقشات المعنية بقطاع الأمن. وقد تجلّى هذا الإخفاق في تجلّيَّين رئيسيتين: أوّلُهما التقليل من أهمية الحاجة الحقيقية للأمن داخل المجتمعات؛ وثانيهما فشَلُ المحتجّين في وضع خطة شاملة لإصلاحات تدريجية مُجدِية في قطاع الأمن.
ففي مصر، وخلال الأيام الأولى للثورة، استهدف المتظاهرون العديد من المباني الأمنية ومراكز الشرطة الرئيسية وفكَّكوها. غيرَ أنهم ارتكبوا خطأ فادحاً باقتراح خريطة طريق غامضة لإصلاح قطاع الأمن بدلاً من وضع خطة ملموسة لإعادة تعريف علاقة الشعب بالشرطة. واعتقدت الحركات الشبابية خطأً أنّ المجتمعات ستظل داعمة للحركة الاحتجاجية ومُثُلِها المُجرّدة على رغم ما تعانيه من الفوضى. وفي المقابل، أعطت الحكومة المنتخبة بقيادة جماعة الإخوان المسلمين الأولوية للسيطرة على المؤسسات الأمنية على حساب إصلاحها، وهو القرار الذي كانت له عواقب وخيمة في نهاية المطاف.
في تونس، كان العامل المحفز للثورة حادثٌ مأساوي يتعلق بانتهاكات الشرطة، وهو ما دفع أحد المواطنين المحلّيين إلى إضرام النار في نفسه احتجاجاً على ذلك. وعلى رغم هذا التعبير الجَليِّ عن الحاجة إلى الإصلاح الأمني، إلّا أن قطاعَيْ الشرطة والأمن في تونس ظلَّا من بين أقل القطاعات إصلاحاً خلال الحكومات الانتقالية في البلاد. واستمرت حالة عدم إحراز أيّ تقدّم هذه حتى انقلاب قيس سعيّد عام 2021، الذي انتهى بتفكيك واحدة من أكثر ديمقراطيات الربيع العربي تقدّمية في البلد عينه الذي أشعل شرارة الحَراك الإقليمي. ومن ثمّ، فإن الدرس المستفاد هنا هو أنّ الإصلاح الأمني ضروري لاستدامة أي حَراك يهدف إلى حريات وتغيير سياسي ناجعٍ وطويل الأمد.
التطلع قُدُماً
على أنّ هذا لا يعني بالطبع التقليل من شأن مجموعة العوامل التي ساهمت في تعثُّر الحركات المؤيدة للإصلاح خلال الربيع العربي وبعده. فقد لعبت تدخّلات الأنظمة الاستبدادية الإقليمية دوراً مهماً. وعلاوةً على ذلك، أدى ضعف هياكل الدولة التي انهارت بسهولة إلى تفاقم حالة عدم الاستقرار وتعقيد المساعي الانتقالية.
ومع ذلك، فإن الدروس الثلاثة المذكورة أعلاه تُعزّز الحقيقة البسيطة المتمثلة في أن الحركات الثورية، على رغم كونها جذريَّةً من حيث التصميم، لا يمكن أن تنفصل عن اهتمامات السكان ومصالحهم الأوسع إذا ما أرادت أن تُكلَّل بالنجاح. وكما قال أحد الناشطين الذين شاركوا في احتجاجات عام 2011: “كنا مشغولين بمناقشة ماركس وآدم سميث، بينما كانت الأنظمة والجماعات الدينية تناقش مشاكل نظام الصرف الصحي في الأحياء الفقيرة”. بالنسبة إلى أيّ حركة احتجاجية تطمح إلى تغيير الأنظمة السياسية، فإن تجاهل القضايا اليومية له ثمنه.
وتفتح تأملاتُ النشطاء حول دروس العقد الماضي واستعدادهم لتبنّي مقاربات أكثر استدامة وواقعية البابَ أمام سلسلةٍ من الفرص لمواصلة الدعوة إلى الإصلاح، لا سيما في مجالات السياسات الرئيسية مثل تأثير تغيّر المناخ، وإدماج الأقليات، والحوكمة، والقضايا الاقتصادية. ويمكن أن تكون المشاركة في مجال التغيّر المناخي أقل حساسية من الناحية السياسية، مما يتيح اتخاذ إجراءات عاجلة حتى في منطقة تشهد عودة الاستبداد. ستسعى حوارات تشاتام هاوس المستقبلية مع الناشطين إلى استكشاف كيفيّة السعي نحو هذه المناصرة السياساتية ولزومها في جميع أنحاء المنطقة.