كيف يُشكِّل النزاعُ الممارساتِ داخلَ شبكات تهريب البشر والاتجار بهم عبر الحدود الوطنية

  • تيم إيتون

    Senior Research Fellow, Chatham House

    زميل أبحاث أول، تشاثام هاوس

  • بيتر تينتي

    Lecturer at University of Chicago

    محاضر في جامعة شيكاغو

تُعدّ أغاديز في شمال النيجر وسبها في جنوب ليبيا محطتَي عبور على نفس طريق تهريب البشر العابر للحدود الذي يربط غرب أفريقيا بالساحل الليبي وأوروبا. كلتاهما مدينتان صحراويتان تبعدان عن بعضهما البعض مسافة 1,300 كيلومتر تقريباً، كما أن لكل منهما خصائص جغرافية متشابهة. وكِلتا المدينتين مركزان تجاريّان تاريخيان في الصحراء الكبرى شَعَرَ سكانهما تاريخياً بالتهميش من قِبَل الحكومات في عاصمتيهما. فلماذا يرتبط تهريب البشر والاتجار بهم ارتباطاً وثيقاً بالعنف في سبها أكثر مما هو عليه في أغاديز؟ في سبها، أفادت تقارير انتشرت على نطاق واسع عن انتهاكاتٍ بحقّ المهاجرين واندلاع نزاعات عنيفة على المستوى المحلي، حيث كان التنافس على السيطرة على التهريب سمة بارزة. ولا تحدثُ مثل هذه الانتهاكات بهذا المستوى من التواتُر في أغاديز، على رغم أنّ حركة النقل البريّ للمهاجرين أصبحت أكثر خطورة في أعقاب شنِّ حملةٍ على تهريب المهاجرين في عام 2016.

ويميلُ صانعو السياسات الدوليّون إلى النظر إلى أنشطة التهريب على أنها نواتج ثانوية لمحدودية قُدرات الدولة وضعف سيادة القانون. على هذا النحو، أعطت التدخلات السياساتية حتى الآن الأولوية للاستثمار في إنفاذ القانون والنُّهُج القضائية للحدّ من تنقُّل المهاجرين. غير أنَّ النظر إلى القطاع من منظور تحليل النزاع المقارَن يوفّر رؤى أعمق في ديناميّات النزاع المتباينة في هذه المواقع. تستكشف هذه المقالة القصيرةُ كيفيّة تفاعل الهجرة غير النظامية[1] للمهاجرين[2] واللاجئين[3] عن طريق تهريب[4] الأشخاص والاتجار بهم[5]، مع السِّمات الهيكلية في كل من أغاديز وسبها، من أجل تفسير التباينات التي نراها.

تنامي التهريب بكونه مصدراً رئيسيّاً للإيرادات، والاستجابة الدولية

تقلَّبت الظروف المحلية لتهريب المهاجرين والاتجار بالبشر في كل من أغاديز وسبها بشكل كبير خلال العقد الماضي. وقد أدّى انهيار الجهاز الأمني للنظام، والفراغ في الحكم الذي أعقب ذلك، إلى توسّع سريع لشبكات التهريب في ليبيا، وهو ما يشبه تحوّل الظاهرة إلى “قطاع أعمال قائم في حدّ ذاته نوعاً ما. وقد ارتفع عدد المهاجرين الذين دخلوا إيطاليا عبر البحر الأبيض المتوسط من حوالي 28,500 مهاجر في عام 2011 إلى ما يقرب من 163,000 مهاجر في عام 2016. على الجانب الآخر من الحدود، مرَّ ما يُقدَّر بنحو 333000 مهاجر عبْرَ أغاديز في نفس السنة المذكورة وحدها. وقد سُمِحَ لمواطني الجماعة الاقتصادية لدول غرب أفريقيا بالسفر بدون تأشيرة إلى الحدود الليبية، وإن لم يكن إلى ليبيا نفسها. وفي هذا الوقت، كانت تكاليف عبور البحر الأبيض المتوسط من ليبيا قد انخفضت بشكل كبير، مما ساهم في خلق بيئة متساهلة للسفر عبر النيجر، وأدّى إلى زيادة الهجرة غير النظامية عبر أغاديز إلى سبها.

وفي كلّ من سبها وأغاديز، أصبح قطاع التهريب مصدراً مهماً للإيرادات. ففي خِضمّ الضائقة الاقتصادية الأوسع نطاقاً في ليبيا، شكَّلَ قطاعُ التهريب مصدراً مربحاً للدخل، خاصة بالنسبة للأجيال الشابة التي ترى أن هناك بدائل محدودة لكسب الرزق. وقد تمتَّعت أغاديز بازدهار تجاري بفضل عائدات التهريب، إذ أكد تحليلٌ سيصدر قريباً عن تشاتام هاوس أنّ الفترة 2011-2016 شهِدت توسُّعاً حضرياً كبيراً وزيادة في الكثافة السكانية.

وقد دفعت هذه التطورات صانعي السياسات الأوروبيين إلى اتخاذ بعض الإجراءات، وبسبب المخاوف من “أزمة المهاجرين” التي أخذت تنمو، دفع صانعو السياسة الأوروبيون إلى سنِّ قانون لتجريم التهريب في النيجر وانخرطوا في سلسلة من المساومات قصيرة النظر مع السلطات الليبية بهدف الحدّ من تدفّق المهاجرين.

أنماطٌ متباينة من السلطة والأمن

عند النظر إلى السياق الأوسع داخل المدينتين، تبرُز الاختلافات بينهما. فقد أدّت النزاعات المحلية إلى تطوّر قطاع الأمن التنافسي في سبها، وهو ما لا ينعكس في أغاديز. وهذا هو الفرق الأساسي ذو الصلة بين الموقعين.

في سبها، لا تزال السلطة في المدينة محطَّ نزاعٍ بين المجموعات القبلية والخصوم السياسيين. وقد تعقَّدَت العلاقة بين سبها، التي تُعتَبر عاصمة إقليم فزّان الليبي، ودولة ما بعد القذافي، بسبب الانقسام الإداري والتنافس المحلي. ولا تزال الحوكمة ضعيفة من الناحية المؤسسية، كما أن البيئة الأمنية في سبها تتّسم بالتنافسية والانقسام الشديدين.

وفي ظلّ غياب قوات الدولة “النظامية”، فإنّ الجماعات المسلحة في سبها ترتبط ارتباطاً وثيقاً بالدوائر الاجتماعية، ويُنظر إليها عموماً على أنها تتصرف لصالح المجتمع أو، في أغلب الأحيان، بدافع المصلحة الذاتية. والأهم من ذلك، فإنّ السيطرة المادية للجماعات المسلحة على الأراضي، بما في ذلك من خلال الحفاظ على نقاط التفتيش والبنية التحتية ومراكز الاحتجاز، تخلق بيئة تتَّسِمُ بالطابع الأمني ويجري ضبطها على أساس مجتمعيٍّ للكثير من النشاط الاقتصادي الذي يحدث – سواء كان مشروعاً أو لم يكن. وفي هذا السياق فإن تهريب البشر والاتجار بهم ليس استثناءً من ذلك.

إذ يتعيّن على المهرِّبين في المدينة دفع رسوم “حماية” من أجل العمل، كما يجري فرضُ ضرائب على المهرِّبين في المدينة من أجل التنقل عبر نقاط التفتيش التي تديرها الجماعات المسلحة المحلية. وفي أعقاب محاولات التضييق على ممارسات التهريب نتيجة لضغوط صانعي السياسات الأوروبيين، تفتّتت  أسواق الحماية هذه وتحوّلت إلى ممارساتٍ أكثر قسراً مثل العمل سُّخرة والفدية.

وفي النيجر، كان لأغاديز علاقة أكثر فاعليّة مع السلطة الحاكمة في نيامي طوال هذه الفترة. وقد استُخدمت الحصص في التمثيل الحكومي ولامركزية الوظائف الإدارية لاسترضاء الأقليات، مثل الطوارق. الأهم من ذلك، عدم وجود بيئة أمنية تنافسية مماثلة لسبها في أغاديز. وفي حين أنَّ جماعات الجريمة المنظّمة تعمل داخل الإقليم، كما أن الإجرام موجود، إلّا أن مستوى العنف بين هذه الجماعات محدود نسبيّاً، كما أن تهريب المهاجرين يجري بدرجات متفاوتة من التواطؤ المباشر وغير المباشر من قِبل الدولة.

في الواقع، كانت الضغوط الأوروبية في النيجر هي التي غيّرت الوضع هناك من خلال تحفيز السلطات النيجرية على تجريم هذا القطاع. ونجحت هذه السياسة، التي انتهت رسمياً في أواخر عام 2023 عندما ألغت الحكومة النيجرية الجديدة بقيادة الجيش قوانين مكافحة التهريب، في تقليل عدد المهاجرين الذين يمرون عبر أغاديز. لكن القانون حفز انتشار طُرقٍ أكثر خطورة مصمَّمةً لتجنُّب اكتشافها من قِبل سلطات الدولة، ممّا يُعرِّض المهاجرين لخطر أكبر. وفي مثالٍ حديث على هذه المخاطر، اكتُشفِت مقبرة جماعية تحتوي على 65 جثة مهاجر في جنوب غرب ليبيا، ويُعتقد أن الذين قضوا هناكَ قد لقوا حتفهم أثناء عبورهم الصحراء. ولئن كان بعض الأثر الاقتصادي لانهيار صناعة التهريب قد تقلّص من خلال تَسارُع وتيرة التهافت على الذهب في معظم أنحاء النيجر، إلّا أنَّ آلاف الأُسَر التي كانت تستفيد من اقتصاد الهجرة فقدت مصدراً مهماً للدخل. كما ازدادت أعمال اللصوصية في جميع أنحاء شمال النيجر في السنوات الأخيرة، وهي ترتبط بتزايُدِ وجود العناصر المسلحة من جنوب ليبيا وتشاد الذين يسافرون إلى النيجر للانخراط في أنشطة عدوانية واستغلالية. ومع ذلك، يبقى السياق أكثر هدوءاً بكثير مما هو عليه في ليبيا.

كيفية تحويل الخلافات الاجتماعية إلى نزاعات من خلال حركة الناس

ثمّة اختلافٌ آخر بين الموقعين يكمن في درجة التماسك الاجتماعي داخل المدينتين. في سبها، يؤدي وجود المهاجرين من أفريقيا جنوب الصحراء الكُبرى إلى إثارة النزاعات الاجتماعية المستمرة. وينتقل التوتر داخل المجتمعات المحلية نتيجةً للنزاعات المستمرة إلى القضايا المتعلقة بالتمييز على أساس لون البشرة.

ولهذه الاختلافات تأثيرٌ كبير على معاملة المهاجرين غير النظاميين الذين يعبرون المنطقتين. والجدير بالذكر أن الوجود المتزايد للتبّو في سبها، وهي جماعة صحراوية عابرة للحدود الوطنية كانت مهمَّشة تاريخيّاً، داخل المدينة وتوسُّع مصالح التبّو الاقتصادية في القطاع غير المشروع، قد أثار مواجهات مع القبائل العربية في سبها، مثل أولاد سليمان الذين يَعتَبِرون سبها عاصمتهم التاريخية. ولا يزال هناك تمييز كبير على أساس العرق، وعلى رغمِ الوجود الطويل الأمد للمهاجرين من النيجر وتشاد ودول جنوب الصحراء الكبرى في القوى العاملة في ليبيا قبل عام 2011، إلّا أنَّ غير الليبيين يفيدون بأنهم يتعرّضون لممارسات تمييزية ويتعرّضون للاستغلال، ويُلقي السكان المحليون باللوم على “الأجانب” في زعزعة استقرار المدينة.

والجدير بالذكر أن هذه التوترات ليست بنفس الحِدّة داخل أغاديز، وقد أدّى وجود مظاهر الثراء الواضحة وتزايد القوة الاقتصادية للتبّو، الذين يستفيدون من قطاع التهريب، إلى نشوء بعض العداء من قِبَل السكان من الطوارق وأغلبية الهوسا، ولكن هذا لم يتحول حتى الآن إلى عنف طائفي.

كيف أدى النزاع العنيف إلى تهيئة القطاع

يمكن ملاحظة أنّ النزاع العنيف يكمُن في صميم درجات العنف المتفاوتة التي تظهر في ممارسات تهريب البشر والاتجار بهم في أغاديز وسبها. على سبيل المثال، إنّ دوافع هذا النزاع هي في المقام الأول محلية المنشأ في سبها، وهي نابعة من نزاعات الحكم المستمرة على المستويين المحلي والوطني، التي ترتبط بدورها بالتوترات بين الجماعات، وهي التوترات التي ما تزال بِلا حلٍّ داخل سبها. وهذه العوامل، إلى جانب استمرار وجود التمييز على أساس اللون، هي ما يُحدّد ملامح أنشطة تهريب المهاجرين والاتجار بهم. أمّا في أغاديز، فقد كانت تدابير تجريم الهجرة والحد منها التزاماً بأولويات السياسة الأوروبية هي التي أدّت إلى مزيد من الوفيات بين المهاجرين، بينما فاقمت من التوترات داخل المجتمع المحلي وزادت من العنف الذي يتعرّض له المهاجرون.

تُظهر هذه التطورات في قطاعات التهريب في المدينتين كيف يمكن لآثار الصراع أن تمتد عبر الحدود الوطنية مسببة سلسلة من تأثيرات الدومينو. كما أنها تسلط الضوء على كيفية تشكل الأنشطة العابرة للحدود الوطنية، وفي هذه الحالة عمليات تهريب المهاجرين والاتجار بالبشر، عبر السياقات المحلية التي تمر من خلالها.
_____________________________________________

[1] تُعتَبر الهجرة غير النظامية ظاهرة معقدة ترتبط بالديناميات الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والأمنية في الدول “المُصدّرة” و”دول العبور”.

[2] وتُعرّف المنظمة الدولية للهجرة المهاجر بأنه: “أي شخص يتحرك أو تحرك عبر حدود دولية أو داخل دولة ما بعيداً عن مكان إقامته المعتاد، بغضِّ النظر عن (1) الوضع القانوني للشخص، (2) وما إذا كان الانتقال طوعياً أو غير طوعي؛ (3) وما هي أسباب الانتقال؛ (4) وما هي مدة الإقامة”.

[3] بموجب اتفاقية الأمم المتحدة للاجئين، فإنّ اللاجئ هو شخصٌ فرَّ من بلده بسبب خوف مبرَّر من الاضطهاد، ولا ينبغي إعادته إلى بلد يواجه فيه تهديدات خطيرة على حياته أو حريته. يُعرّف القانون الدولي اللاجئين ويحميهم.

[4] “يُفهم [تهريب البشر] عادةً على أنه تواطؤ أو تسهيلٌ للهجرة في انتهاكٍ لقوانين وأنظمة الهجرة المحلية”. انظر: كارلينغ، ج. (2006)، الهجرة وتهريب البشر والاتجار بهم من نيجيريا إلى أوروبا، سلسلة أبحاث الهجرة للمنظمة الدولية للهجرة، رقم 23، جنيف: المنظمة الدولية للهجرة ص 9.

[5] تُعرِّف المادة 3 من بروتوكول منع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص، الاتجار بالأشخاص بأنه: “تجنيدُ أشخاصٍ أو نقلهم أو تنقيلهم أو إيواؤهم أو استقبالهم بواسطة التهديد بالقوة أو استعمالها أو غير ذلك من أشكال القسر أو الاختطاف أو الاحتيال أو الخداع أو استغلال السلطة أو استغلال حالة استضعاف، أو بإعطاء أو تلقّي مبالغ مالية أو مزايا لنيل موافقة شخص له سيطرة على شخص آخر لغرض الاستغلال. ويشمل الاستغلال، كحدّ أدنى، استغلال دعارة الغير أو سائر أشكال الاستغلال الجنسي، أو السخرة أو الخدمة قسراً، أو الاسترقاق أو الممارسات الشبيهة بالرق، أو الاستعباد أو نزع الأعضاء.”