تواجه البصرة، المدينة الساحلية العراقية والمركز الاقتصادي الجنوبي، أزمة مياه حادة على رغم غنى المنطقة بالموارد الطبيعية. إنّ ندرة المياه في البلاد مشكلة متعددة الأوجه، تتأثر بأنشطة دول المنبع، والنمو السكاني، والظواهر الجوية القاسية التي قللت من تدفق المياه إلى نهرَي دجلة والفرات. وعلى مر السنين، بُذلت جهود مختلفة لتلبية احتياجات البصرة المتزايدة من المياه، إلا أن التقدم المحرز في هذا المجال كان ضئيلاً للغاية.
وتُعتبر تحلية المياه أحد الحلول الأكثر عملية الطويلة الأجل لمستقبل المياه في العراق في مواجهة هذه الصعوبات. ومع ذلك، فقد تعقدت عملية إدماج تحلية المياه في سياسة إدارة المياه في البلاد بسبب الفساد السياسي الذي أدى إلى سوء الإدارة والرشوة والاختلاس، إلى جانب التركيبة المؤسسية التي تتسبب في تأخير مشاريع البنية التحتية مثل مشاريع تحلية المياه أو إنهائها بشكل مفاجئ.
تحلية المياه في البصرة
فشلت الحكومات السابقة في معالجة أزمة المياه في البصرة بصورة فعالة أو تنفيذ حلول مستدامة. كما أنها لم تحاسب شركات النفط على استغلال موارد العراق المائية لإنتاج النفط. وقد قُدّمت مقترحات لتحلية المياه مراراً وتكراراً ولكنها لم تُنفّذ بسبب الفساد والعقبات البيروقراطية.
وقد ناقشت الحكومات فكرة تحلية المياه لصناعة النفط لأكثر من عقد من الزمن. وفي عام 2010، وضعت شركة إكسون موبيل الأمريكية مقترحاً لمشروع كان من شأنه أن يزوّد ثمانية حقول نفطية في الجنوب بالمياه العذبة من خلال خط بطول 270 كيلومتراً. وتولّت شركة نفط الجنوب إدارة المشروع في نهاية المطاف، لكن المشروع لم يرَ النور بسبب الخلافات حول التكلفة التي قُدّرت بـ12 مليار دولار والجدول الزمني للبناء الذي كان من المفترض أن يستغرق ثلاث سنوات.
كان من المقرر أن يكتمل مشروع تحلية المياه في الهارثة الذي مُنح في عام 2014، ولكن لم يكتمل حتى عام 2019، بتكلفة 115 مليون دولار. وقد أدت البيروقراطية والفساد وتداخل الأدوار المؤسسية إلى التأخير، إذ تطلبت وزارة المالية موافقة وزارة التخطيط ووزارة البلديات المسؤولتين عن المشروع. وقد أضيف إلى ذلك اتهامات وتوترات في البرلمان بين هذه الوزارات، فضلاً عن اتهامات بالفساد من هيئة النزاهة. وعلى الرغم من تشغيل المرفق إلا أن بناء خطوط توزيع المياه لم يكتمل بعد وربما يستغرق سنوات.
في عام 2023، أرست حكومة السوداني على شركة “باور تشاينا” صفقة بناءِ واحدةٍ من أكبر محطات تحلية المياه في العالم في ميناء الفاو بالإضافة إلى محطة لتوليد الطاقة لإمدادها. ومن المقرر أن تنتج المحطة مليون متر مكعب يومياً، لتلبية احتياجات 3-4 ملايين نسمة في البصرة من المياه الصالحة للشرب. وقد بُذلت جهود للحد من البيروقراطية من خلال اللامركزية مع نقل المشروع من وزارة الإعمار والإسكان إلى محافظة البصرة. ومع ذلك، لا تزال هناك مخاوف بشأن الفساد السياسي المحلي المستمر وتنافس النُخب.
هناك مشروع آخر لتحلية المياه ستطوره شركة توتال إنيرجي كجزء من صفقة متعددة المشاريع بقيمة 27 مليار دولار أٌبرِمت في عام 2023. ومن المقرر أن يُنتِج المشروع 5.2 مليون برميل من المياه العذبة يومياً على أن يبدأ تشغيله بحلول عام 2028. يهدف المشروع إلى زيادة إنتاج النفط الخام باستخدام المياه الناتجة عن تحلية المياه، ومع ذلك، هناك الكثير من الشكوك والتأخيرات بالفعل. ويثير مشروع توتال إنرجي الكثير من التساؤلات بين الخبراء، إذ جرى توقيع الاتفاقية الأولية الطموحة في عام 2019 ولكن أعمال المشروع لم تبدأ حتى عام 2023.
المُضيّ قدُماً
يتطلب إجراءُ إصلاحات ناجعة وجذرية عند التعامل مع مشاريع البنية التحتية فهمَ الأسباب الكامنة وراء الفساد ضمن الإطار المؤسسي لنظام تقاسُم السلطة السياسية في العراق، المعروف باسم المحاصصة. إذ يستند تعيين كبار المسؤولين إلى الانتماء الحزبي وليس الكفاءة، مما يؤدي إلى شغل أفراد غير مؤهلين لمناصب رئيسية. كما يؤدي تبديل موظَّفي الوزارات بعد الانتخابات إلى تآكل المعرفة المؤسسية، مما يجعل الوزارات غير قادرة على الالتزام بخطط المشاريع الاستراتيجية. فكل موظف إداري قادم يعطي الأولوية لأجندة سياسية جديدة. وإذا كانت المشاريع السابقة مؤشراً على ذلك، يجب على الحكومة أن تنشئ نظاماً إداريّاً شفافاً وإطاراً لمكافحة الفساد، وأن تعزّز إجراءات التدقيق، وأن يكون لديها استراتيجية شفافة لعملية برمجة المشاريع تتضمن عمليةً كاملةً لطرح العطاءات والتزامات واضحة للعقود.
وينبغي أن تشمل الإصلاحات الرامية إلى مكافحة الفساد تغيير آليات المساءلة الحالية. وتتألف لجان النزاهة الحالية، المسؤولة عن الإشراف على تنفيذ وتمويل المشاريع العامة وضمان الامتثال والمساءلة، من موظفي الوزارة، مما يجعلها أكثر عرضة للرشوة. أما اللجان المستقلة الخارجية التي يشترك في إدارتها مسؤولون عراقيون وشركات أجنبية وفقاً للمعايير الدولية للتدقيق المالي والرقابة على المشاريع، فستكون أقل عرضة للضغوط السياسية المحلية، لأن هذه الأخيرة ستكون لها سمعة دولية يجب أن تحافظ عليها. كما تحتاج الحكومة أيضاً إلى إنشاء لجنة مركزية إدارية أساسية لتحديد مشاريع البِنية التحتية الحيوية وترتيب أولوياتها. ومن شأن هذه اللجنة أن تحرص على أن تذهب الأموال إلى المشاريع ذات الأولوية التي لها تأثير استراتيجي وطني طويل الأجل، بغضّ النظر عن الأجندة السياسية الحالية للوزارات.
بالإضافة إلى ذلك، يجب على مجلس النواب أن يأخذ زمام المبادرة لتحديث التشريعات لضمان وجود إطار بيئي قوي يحظر على الكيانات العامة والخاصة إساءة استخدام الموارد الطبيعية، إلى جانب إطار وطني لتخصيص المياه للتحكم في استخدام المياه. وهذا من شأنه أن يعطي الأولوية للطلب على الاستهلاك الزراعي والاستهلاك العام على الاستخدام الصناعي، مع فرض رسوم صارمة على شركات النفط.
كما يمكن للمنظمات الدولية أن تلعب دوراً في تحسين إدارة إمدادات المياه في العراق. فبينما قدمت هذه المنظمات الدعم المالي والمشورة الفنية وتنمية القدرات، إلا أنها لم تفلح في ترجمة هذه الجهود إلى نتائج ملموسة. فعلى سبيل المثال، وُضعت الاستراتيجية الوطنية للمياه في العراق التي أعدَّها البنك الدولي لتكون بمثابة إطار عمل شامل لإدارة الموارد المائية، ولكن على الرغم من البحوث التفصيلية التي أجريت عليها، إلا أنها لا تزال حبراً على ورق ولم تُطبّق إلا قليلاً.
ينبغي للمنظمات الدولية أن تعمل مع الوزارات لضمان ترجمة استراتيجيات إدارة المياه إلى مشاريع قابلة للتنفيذ مع جداول زمنية واضحة ومتابعة. وإذا ما تمّ تنفيذ مشاريع تحلية المياه بشكل جيد، مع وجود حوكمة قوية وحماية بيئية قوية، فإن ذلك سيؤدي إلى تحسين الأمن المائي للبصرة وكل العراق.
هذه المقالة جزءٌ من سلسلة مرصد الإصلاح التي ينشرها تشاتام هاوس، وتهدف إلى تقديم رؤى متعمقة حول المجريات الداخلية للحكومة العراقية، وتقييم ما يمكن للتطورات الأخيرة – المعلنة وتلك التي وراء الكواليس – أن تكشفه بشأن آفاق الوصول إلى دولة عراقية أكثر استقراراً وازدهاراً وخضوعاً للمساءلة. كما يهدف مرصد الإصلاح إلى تقديم توصيات سياساتية للحكومة العراقية وصنّاع القرار الدوليين والمنظمات المتعددة الأطراف والمنظمات غير الحكومية العاملة في العراق، بغية دعم عملية صنع القرار التي تسهم في بناء دولةٍ أكثر استقراراً ومساءلةً وازدهاراً.
وتأتي سلسلة مرصد الإصلاح هذه في إطار مسار العمل في الاقتصاد السياسي للإصلاح، ضمن مبادرة العراق في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي يقودها مدير مشروع المبادرة الدكتور ريناد منصور.