في أسباب ميلِ النخب الحاكمة العراقية نحو الصين

  • سردار عزيز

    Former senior adviser in the Kurdish parliament

    كبير مستشارين سابق للبرلمان الكردي

على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، نفَّذت الصين استراتيجيةً أثبتت فعاليّتها على نحوٍ مذهل في العراق. ورغم أن البلدين احتفلا مؤخراً بالذكرى السنوية الخامسة والستين للصداقة التي تجمَعهُما، إلا أنه يمكن القول إنّ البداية الفعلية والجِدّية لهذه العلاقة كانت في عام 2007، عندما التقى رئيسا البلدين ووافقت الصين على شطب ديون العراق. كان تخفيف الديون المستحقة للصين بمثابة تمهيدٍ لدخولها في نهاية المطاف في صناعة النفط العراقية، وقد شمل ذلك إعادة التفاوض على الاتفاقيات النفطية المُبرمة منذ عام 1997 في عهد نظام صدام حسين. وفي الواقع، لعب مَيلُ النخب العراقية إلى تفضيل الصين دوراً كبيراً في تعزيز العلاقة الصينية العراقية. فخلال ما يقلّ عن ثلاثة عقود، شهدت صادرات العراق إلى الصين ارتفاعاً كبيراً، إذ نمت هذه الصادرات بمعدّلٍ سنوي بلَغ 50.3 في المئة، من 564000 دولار في عام 1995 إلى 34 مليار دولار في عام 2022. وبحلول شباط/ فبراير 2024، أصبحت الشركات الصينية تشرف على ثُلثَي إنتاج العراق من النفط، ما يدل على عمق انخراطها في اقتصاد البلاد.

يرى العراق في الصين شريكاً مثالياً

الصين والعراق شريكان متكاملان في العديد من النواحي، إذ تُعدّ الصين من بين أكبر مستهلكي النفط في العالم، والعراق دولة غنية بالنفط لديها احتياطي يُقدَّر بأكثر من 140 مليار برميل. وبما أن العراق أحد مورِّدي النفط الرئيسيين لمصافي تكرير النفط الصينية، فإن للطاقة بلا شك أهميتها في هذه الشراكة. كذلك فإنّ الهيمنة المتزايدة للصين قطاع الطاقة منحتها منطلقاً لتوسيع حضورها في الصناعات العراقية الأخرى. ونتيجة لذلك، تسيطر الصين على عدد كبير من القطاعات الأخرى في العراق، مثل التجارة التي بلغ حجمها قرابة 50 مليار دولار في عام 2023، وفقاً لشورش خالد، سفير العراق لدى بكّين. كذلك يزداد حضور الصين في قطاعات مثل الاتصالات والطاقة الشمسية والحكومة الإلكترونية، بهدف الوصول إلى مستوى يعتمد فيه العراق إلى حد كبير على الصين.

ويأتي الصعود المتسارع للصين في العراق نتيجةً لاستفادتها المدروسة من الظروف الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والجيوسياسية الفريدة في هذا البلد الشرق أوسطيّ. فقد أثبتت الصين قدرتها على تسخير الديناميات المعقدة بين الدولة والأطراف الفاعلة من غير الدولة في العراق. وإلى جانب الهياكل المحلية والداخلية، لعبت كلٌّ من إيران والولايات المتحدة، من خلال صراعهما غير المباشر في العراق، دوراً في تحقيق ذلك. لذا فإنّ العلاقة المتعددة الأبعاد بين الصين والعراق تختلف عن العلاقات الأخرى من نواحٍ كثيرة، وتفترق عن الأعراف الشائعة في العلاقات الرسمية المشتركة بين الدول. وبهذا المعنى، فإن العلاقة الرسمية بين الدولة والصين والعراق تنطوي أيضاً على أدوار حزبية وفردية.

يتلاءم وضع الطبقة الحاكمة في العراق واقتصادها السياسي بشكل مريح مع النموذج الصيني للحكم أكثر من النموذج الغربي. ولا يقتصر سبب هذا التقارب على سياسة بكّين بعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى أو تجنبّها استخدام خطاب التوبيخ فقط، بل ثمّة أوجه تشابه بين النموذجين الصيني والعراقي من حيث الدور الذي تلعبه الأحزاب السياسية في الحكم، والفساد، والنفور من حقوق الإنسان والديمقراطية والمُثُلِ الأخرى التي يُزعمُ أنها غربية. على سبيل المثال، حين يتعلق الأمر بالاقتصاد السياسي، وبفعل تأثير النموذج الصيني، أصبح التأكيد على التنمية بدلاً من الديمقراطية محورياً في التخطيط السياسي للعراق، كما هو واضح في المشاريع المدعومة من الصين مثل مشروع “طريق التنمية”، والنفط مقابل البنية التحتية، وغيرهما.

تعتقد النخبة في العراق أن النموذج الصيني هو أفضل طريقة لإعادة بناء البلاد بسرعة وعلى نطاق واسع. وفي أعقاب زيارتهم الصين، أعرب عدد من المسؤولين العراقيين عن إعجابهم بالنموذج الصيني. فبعد زيارته في عام 2019 مع رئيس الوزراء العراقي، كتب وزير الطاقة السابق لؤي الخطيب: “ذهبنا إلى الصين بحثاً عن السرعة في التنفيذ، والكفاءة في الأداء، والجودة في الإنتاج، والمنافسة في العروض، والتقدم التكنولوجي، وعن شراكة استراتيجية طويلة الأجل تكون صادقة ومتوازنة”. إلّا أنّ الخطيب غيَّر رأيه وهو اليوم يُحذِّر الحكومة العراقية من المخاطر المرتبة على الإفراط في الاعتماد على شركات النفط الصينية.

كما أعرب أعضاء آخرون كانوا في نفس الوفد لعام 2019 عن إعجابهم بطريقة مماثلة، وذلك وفقاً للمقابلات التي أجريتها معهم. وقد يُنظر إلى رئيس الوزراء السابق عادل عبد المهدي، الذي ترأّسَ الوفد آنذاك، على أنه لاعب رئيسي في مواءمة العلاقة الصينية العراقية – وكذلك جلال طالباني، زعيم الاتحاد الوطني الكردستاني والرئيس السابق للعراق. لفترة من الوقت في حياتهما، كان عبد المهدي وطالباني ماويِّيَيْن.

قدرة الصين على التعامل مع الدولة والأطراف الفاعلة من غيرِ الدولة

يُعرَف عن الاقتصاد السياسي في العراق فساده الممنهج بمباركةٍ سياسية، الذي يُمارَس ويجري التغاضي عنه على أعلى المستويات. ومن جهتها، تتقبّل الصين هذا الواقع بكونه أحد جوانب الحياة المحلية وثقافتها ولا تطعن فيه. وقد انخرطت الشركات الصينية في دفع الرشاوى في الخارج، وهي ظاهرة تناولها الرئيس شي جين بينغ مؤخراً ويحاول معالجتها بموجب سيادة القانون المتعلقة بالأجانب.

ومن الأمثلة على الفساد، التلاعب بالعقود من الباطن، مثل عقد بناء الشركات الصينية 1000 مدرسةٍ لاستيعاب العدد المتزايد من الطلاب في البلاد كجزء من اتفاق النفط مقابل البناء. وقد أثارت الصفقة جُملةً من التساؤلات. على سبيل المثال، لماذا يطلب العراق من شركة صينية بناء مدارس في حين يمكن للشركات المحلية بناؤها؟ إنّ من شأن طرح هذا السؤال في سياق النظام السياسي والاقتصادي العراقي أن يعطيه صدى متميزاً، فالبنية التحتية والمقاولات من بين المجالات الرئيسية للفساد في البلاد. وعندما قامت الشركات الصينية المشاركِة في مشروع بناء المدارس “بالتعاقد من الباطن لتنفيذ الأعمال بأسعار أقل بكثير للعراقيين”، أوجدت الشركات المحلية فرصاً للأحزاب السياسية والميليشيات لأخذ نصيبها من الصفقة.

يدفع الفساد، كقاعدة وممارسة، بالنخب والمؤسسات في العراق إلى أن تُفضِّل الصين. إلّا أنّ هذا الدعم للصين يجري بهدوء، ولا سيّما بعد إطاحة عبد المهدي والخرافة القائلة بأن إبرام الصفقات مع الصين أدى إلى إقالته من منصب رئيس الوزراء. وفي حين أن الفساد موجود أيضاً في أوساط الشركات الغربية العاملة في العراق، غير أنَّ تفضيل النخبة السياسية العراقية للشركات الصينية لا ينبع فقط من تساهُل هذه الأخيرة مع الممارسات المشكوك في شرعيتها. فهناك عامل بالغ الأهمية في هذا الخصوص وهو أنّ الشركات الصينية لا تتدخّل في علاقة العراق بإيران، البلد الخاضع للعقوبات الغربية.

وقد وقّعت الصين وهيئة النزاهة الاتحادية في العراق مذكرة تفاهم في كانون الأول/ديسمبر 2023 من أجل منع الفساد ومحاربته. وكان الغرض من تلك المذكرة خلق مناخ عمل آمن للشركات الدولية في العراق، وخاصة الشركات الصينية. وفي الواقع، تشير المذكرة إلى أنّ الفساد موجود بالفعل في العراق وإلى وجوب مكافحته.

في الوقت نفسه، تُجسّد المذكرة أيضاً سِمَةً أخرى من السمات المقبولة للطرفين، التي تميز العلاقة الصينية العراقية – وهي انعدام الشفافية. كذلك فإنّ هذه المذكرة هي التي تحكم علاقات الصين مع العراق؛ وبالتالي ليس للبرلمان رأي في هذه المسألة. وفي الواقع، تزدري الصين البرلمانات إجمالاً، وتتعامل مع البرلمانَيْن الوطنيَّيْن، الكردستاني والعراقي، بنفس الطريقة. وبحسب النائب في البرلمان العراقي مثنّى أمين، لم يكن للبرلمان العراقي أي تعامل مع الصين خلال السنوات العشر الماضية.

بدلاً من ذلك، تركّز الصين على الأحزاب السياسية في العراق، ولا سيّما من خلال الروابط الحزبية. ويُردُّ هذا في جانب منه إلى تركيز الصين الشديد على السلطة التنفيذية في الحكومة العراقية، وفي جانب آخر إلى تجنُّبها الدعاية ورغبتها في الحفاظ على عدم لفت الأنظار. وبحسب عضو بارز في الحزب الديمقراطي الكردستاني، تقيم بكّين علاقات مع 11 حزباً سياسياً عراقياً، وذلك من خلال اللجنة المركزية للحزب الشيوعي الصيني وإدارة الاتصال الدولي في الحزب. وتتضافر هذه المقاربات الصينية المختلفة مجتمعةً في الحفاظ على الثقافة والممارسات السياسية العراقية الحالية وتعزيزها. بالإضافة إلى ذلك، يمكن أن تدعم هذه المقارباتِ نهجَ الصين الشؤون الدولية، الذي يراعي الاختلافات بين الحضارات، والذي يولي قيمة عالية للمقاومة الاجتماعية والثقافية للهيمنة الغربية، فضلاً عن التأكيد على السيادة وعدم التدخل. ويُترجَمُ هذا النهج من خلال دعم الحفاظ على الوضع الراهن في العراق.

وفي الوقت الراهن، تواصل الصين توسيع نفوذها في الحكومة العراقية، وخاصّة في أوساط العديد من الأحزاب السياسية التي تدعم رئيس الوزراء محمد شيَّاع السوداني. وفضلاً عن الهيمنة على قطاعات النفط والتجارة والصناعة، هناك دعم اجتماعي وسياسي لهذه العلاقة. فعلى سبيل المثال، وقّعت شركة البناء الصينية البارزة، المعروفة اختصاراً باسم “سي إم إي سي” CMEC مذكرة تفاهم مع مجموعة المهندس التي ترتبط بالحشد الشعبي في العراق.

كذلك توجد سمةٌ أخرى غير اعتيادية في هذه العلاقة تتمثل في حملة عراقية شعبية ظاهرياً تدعى الحركة الشعبية لطريق الحرير نظَّمَت مسيرات ومؤتمرات واجتماعات من كربلاء إلى البصرة تدعو إلى توثيق العلاقات الاقتصادية مع الصين وتجنُّب فُرص الاستثمار الغربية والكورية الجنوبية والسعودية. وتدلُّ شعبيةُ الحركة ونشاطها المكثف في العراق على مدى تجاوب بعض الجماعات السياسية التي تريد جني فوائد الاستثمار الأجنبي والحفاظ على موقفها ضد الغرب، مع مسألة الدفاع عن المصالح التجارية الصينية.

التأثير الصيني على المجتمع العراقي الأوسع

من خلال تحويل تركيزها لينصبَّ على الصين، تُحقّقُ النخب الحاكمة في العراق العديد من الأهداف. إذ تسعى هذه النُخَب إلى الحد من نفوذ الولايات المتحدة والقوى الغربية الأخرى في العراق من أجل إزالة جميع العقبات التي تحول دون تحقيق هدفهم على المستوى الوطني، المتمثل في الحصول على الموارد دون قيود وإبقاء سيطرتهم على البلاد. وعلاوة على ذلك، من خلال تكريس اعتماد العراق على الصين، تحاول النخب العراقية الحفاظ على الوضع الراهن – أي الإبقاء على جماعاتها المسلحة الخاصة وتجنُّب العواقب القانونية – لأنها تُدرك أنه من المستبعَد أن تعترض على أي من هذه الأمور.

إن تحاشي الظهور العلني، والنفور من الدعاية والمخاطرة، والسرعة التي تطورت بها العلاقة الصينية العراقية، تجعلها هذه العلاقة مبهمةً وغامضة. وقد اتسع نطاق الآثار الاقتصادية والسياسية للعلاقة بسرعة كبيرة لدرجة أن النخب العراقية والمجتمع العراقي بشكل عام يجدون صعوبة في فهمها فهماً كاملاً. وعليه، قد يُضطر العراقيون إلى مواجهة المزيد من الآثار المترتبة على هذه العلاقة، خصوصاً وأن البلاد تعاني من واقع يتّسِم بضعف مؤسسات الدولة وبضعف أشدّ للمجتمع المدني.

هذه المقالة جزء من سلسلة مقالات ينشرها تشاتام هاوس وتهدف إلى تقديم رؤى متعمقة عن المجريات الداخلية للحكومة العراقية وتقييم ما يمكن للتطورات الأخيرة – المعلنة وتلك التي وراء الكواليس – أن تكشف عنه بشأن آفاق الوصول إلى دولة عراقية أكثر استقراراً وازدهاراً وخضوعاً للمساءلة.

وهذه السلسلة جزء من مسار العمل في الاقتصاد السياسي للإصلاح، ضمن إطار مبادرة العراق في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي يقودها مدير مشروع المبادرة الدكتور ريناد منصور.