تذليل العقبات التي تحول دون الإصلاح المُناخي في العراق

خلال الاجتماع الثامن والعشرين لمؤتمر الأطراف (كوب 28) في عام 2023، تعهّد الرئيس العراقي عبد اللطيف رشيد باتخاذ تدابير تنفيذية سريعة لمعالجة آثار تغير المناخ. ويُعدُّ العراق من بين البلدان الخمسة الأكثر عرضة لتغير المناخ في العالم. إلّا أن النخبة السياسية في البلاد دأبَت على أن تدفع القضايا البيئية خارج جدول أعمال الحكومة سعياً لتحقيق المصالح الشخصية والحزبية من خلال الفساد الذي ترعاه السياسة. وقد سلَّط وزير سابق الضوء على التحديات التي تعترض معالجة الشواغل البيئية وإيلائها الأولوية في جدول الأعمال السياسي والحكومي بقوله: “عندما نحاول إثارة قضايا المياه أو البيئة خلال اجتماعات مجلس الوزراء فإننا نكافح من أجل تأمين الوقت الكافي لهذه المناقشات، فكثيراً ما يكون جدول الأعمال مشغولاً بالقضايا السياسية والاقتصادية والأمنية”.

وغالباً ما تتبع النخبة السياسية في العراق أجندات شعبوية الطابع في المقام الأول بدلاً من التركيز على التخطيط الاستراتيجي طويل الأجل، اللازم للتنمية المستدامة في العراق. ونتيجة لذلك، فإنها تميل إلى تفضيل المشاريع قصيرة الأجل التي يمكن أن تضمن الدعم الفوري من الشارع. على سبيل المثال، في عام 2015، بعد أن نظَّم المزارعون في النجف حملة احتجاجات للمطالبة بالمياه للمحاصيل وباستقالة وزير الموارد المائية محسن الشمري، قام الوزير بتحويل مخصصات المياه من المحافظات الأخرى إلى تلك المنطقة. وقد اتُّخذ هذا الإجراء على المدى القصير لاسترضاء المتظاهرين، لكنه لم يفعل شيئاً للمساعدة في تطوير مشاريع شاملة طويلة الأجل لإدخال تقنيات الري الحديثة الأقل كثافة في استهلاك المياه وتقديم الدعم الحكومي لها. وبين عامي 2022 و 2023، ارتفع التصحر الذي يُعزى إلى ندرة المياه في النجف بنسبة 5 في المئة. ومع أنّ الزراعة لا تُمثِّل سوى 2.85 في المئة من الناتج المحلي الإجمالي للعراق، إلّا أنّ القطاع الزراعي يستهلك 75 في المئة من الموارد المائية في العراق.

كما إنّ لِمَيل النُّخب السياسية إلى البحث عن مبادرات لإثراء ثرواتهم الشخصية وخزائنهم الحزبية تداعيات أخرى على قدرة الحكومة على معالجة أزمة المناخ. ووفقاً للمنظمة الدولية للهجرة، نزح أكثر من شخص واحد من كل عشرة أشخاص في المناطق المعرّضة لأثار تغيّر المناخ في وسط وجنوب العراق بين عامي 2016 و 2022. وقد تضاعف هذا الرقم في عام 2023، مع توقعاتٍ تُرجّح المزيد من التدهور في الوضع. وتتجلّى آثار هذا النزوح بوضوح في البصرة، إذ بنى أشخاص نزحوا من ميسان وذي قار شمال البصرة آلاف الوحدات السكنية غير الرسمية على أراضٍ زراعية سابقة في جميع أنحاء المحافظة. وقد راكمت هذه الموجة الجديدة من النزوح المزيد من الضغط على كاهل الخدمات المنهكة أصلاً في البصرة. إذ تستفيد تلك الوحدات السكنية غير الرسمية بشكل غير قانوني من خطوط أنابيب المياه وبالتالي تُقلّل كمية المياه المتاحة لأجزاء أخرى من المحافظة. ورداً على ذلك، تقوم بلدية البصرة إلى جانب قوات الأمن العراقية بتجريف المنازل غير القانونية بشكل روتيني. وبدلاً من توفير ما يكفي من المساكن الاجتماعية بأسعار معقولة للنازحين، تقوم الحكومة المحلية ببناء مجمعات مسوّرة خاصة لنخبة المحافظة. وغالباً ما يستفيد السياسيون المحليون من عقود هذه المجمَّعات، إمّا من خلال تقاضي نِسَبٍ مباشرة أو كمساهمين في الشركات التي تفوز بالعقود.

مصادر التوتر البيئي

يتفاقم نقص المياه في العراق بسبب سدود المنبع التي تقوم تركيا وإيران ببنائها منذ سبعينيات القرن الماضي. وإلى جانب ارتفاع درجات الحرارة وانخفاض الهطولات المطرية، ساهمت السدود في تقليل كمية المياه المتاحة في العراق. وقد تسبَّب ذلك في مشاكل زيادة مستويات الملوحة في مصادر المياه العراقية. ومنذ صيف عام 2023، سُمِح بتدفق المياه من نهر كارون في إيران إلى نهر شط العرب، مما قلَّل من ملوحة المياه في البصرة. وكان فتحُ السد على نهر كارون قراراً سياسياً جرى التوصل إليه بين العراق وإيران لمنع أي تكرار للاحتجاجات التي تسبب بها شُحُّ المياه كما حدث في عام 2018، عندما ساهمت زيادة الملوحة في تلوّث المياه وتسمُّمِ أكثر من 100,000 شخص أُدخِلوا إلى المستشفيات في البصرة.

إلّا أنّ التدابير طويلة الأجل لضمان التقاسم العادل للمياه العابرة للحدود بين العراق وجيرانه كثيراً ما يجري تجاهلها. ويؤثّر نظام تقاسم السلطة الإثنوطائفي (المعروف باسم نظام المحاصصة) للحكومة أيضاً على الخدمة المدنية. فمع كل حكومة جديدة تجري تعيينات المناصب الفنية الرئيسية من جديد بما يتماشى مع مصالح الأحزاب السياسية الفائزة، مما يؤدي إلى خسارة المعرفة المؤسسية الهامة والخبرة الفنية والتقدم في المفاوضات. على سبيل المثال، في أيار/ مايو 2023، أقال مجلس الوزراء 57 مديراً عاماً في أربعة كيانات مختلفة في نفس الوقت، بما في ذلك بعض المناصب الرئيسية في وزارة الموارد المائية. وتعاني كل من وزارة البيئة ووزارة الموارد المائية من عدم كفاية الميزانية ونقص الموظفين وضعف البنية التحتية، مما يعوق قدراتهما التشغيلية إعاقة كبيرة. وقد لفت نشطاء بيئيون الانتباه إلى ذلك في أيار/ مايو 2023 أثناء صياغة الميزانية الوطنية للفترة من 2023 إلى 2025 وإقرارها في البرلمان العراقي، وهي الميزانية التي استبعدت تمويل المشاريع البيئية أو المتعلقة بالمناخ.

وعندما حاول النشطاء زيادة الوعي بالتهديدات الخطيرة التي يواجهها العراق بسبب تغير المناخ وتقاعس الحكومة، جرى استهدافهم بشكل منهجي من خلال التشهير أو التهديدات أو الاختطاف. ومنذ انتفاضة تشرين الأول/ أكتوبر 2019، كانت النخبة السياسية في العراق حذرة بشكل متزايد من جميع أشكال الحراك، بما في ذلك الحراك البيئي. وقد حذا هذا التخوّف بالعديد من المنظمات غير الحكومية البيئية إلى تقليص عملياتها رغم أنّها تضطلع بدورٍ حيويّ في استكمال الجهود الحكومية لمعالجة القضايا البيئية. وقد بلغ الوضع ذروة التدهور مع اختطاف جاسم الأسدي في شباط/ فبراير 2023، وهو ناشط بيئي بارز من مجموعة اسمها طبيعة العراق، على خلفيّة الزّعم بأنه يتحرك بموجب “أجندات أجنبية”، ثّم أُطلِق سراحه بعد أسبوعين في الأسر. وسلَّطت عملية الاختطاف الضوء على المخاطر التي يواجهها النشطاء البيئيون الأفراد في العراق، كما أبرزت الوضع الصعب الذي تعمل فيه المنظمات غير الحكومية، مما يؤثر على قدرتها على محاسبة النخبة السياسية في البلاد على تقاعسها عن العمل.

تغيير النهج

ليست مخاطر تغير المناخ نتيجة للتغيرات في النُّظُم الفيزيائية فقط، فهي تنتج عن الديناميّات الاقتصادية والسياسية، لا بل وتتفاقم بسببها. لذلك من الأهمية أن تعمل حكومة العراق على الحدّ من هذه المخاطر من أجل إنفاذ التدابير التي وعد بها الرئيس في الدورة الثامنة والعشرين لمؤتمر الأطراف. وبُغية ذلك، يحتاج العراق إلى استراتيجية شاملة – استراتيجية تنطوي على التعاون بين الحكومة العراقية ومنظمات المجتمع المدني المحلية والمجتمع الدولي.

وينبغي التمييز بوضوح بين سياسات تقاسُم السلطة وصياغة السياسات البيئية، من أجل وقف نزوعِ الحكومة إلى تبنّي سياسات شعبوية قصيرة الأجل. ويمكن تحقيق ذلك من خلال “نهج ترابُطيّ” يعمل من خلاله الإصلاحيون من الحكومة جنباً إلى جنب مع نشطاء المجتمع المدني ويستخدمون وسائل الإعلام للضغط من أجل إصلاحات بيئية مستدامة.

ومن الضروري أن تضغط الحكومة العراقية بقيادة الرئيس عبد اللطيف رشيد ورئيس الوزراء محمد شياع السوداني، من أجل الاحتفاظ بكبار موظفي الخدمة المدنية المستقلين عن نظام المحاصصة أو تعيينهم أو إعادتهم إلى مناصبهم. ويشمل ذلك خبراء المياه والمناخ الذين كرّسوا سنوات لمعالجة هذه القضايا الحرجة داخل العراق ولكنهم تعرّضوا للتجاهل أو الإقالة من مناصبهم بسبب هذا النظام. فمن خلال إشراك هؤلاء الخبراء، يمكن للعراق تطوير استراتيجية مناخية فعالة وتنفيذها.

كما إنّ لكلٍّ من المجتمع المدني ووسائل الإعلام أهميته البالغة في زيادة الوعي البيئي في أوساط المجتمعات المحلية وتعزيز الدعم العام. لقد عملت منظمات بيئية مثل حُماةُ دجلة وطبيعةُ العراق على هذه القضايا لسنوات. ويمكن أن يوفّر تعاونهم مع الخبراء المستقلين سياسياً – سواء داخل وزارة البيئة أو وزارة الموارد المائية أو مكتب رئيس الوزراء – شعوراً بالأمان والتوافق مع المبادرات الحكومية، مما يضمن عمل هذه المجموعات تحت مظلة تؤمِّن لها الحماية.

كذلك يلعب المجتمع الدولي هو الآخر دوراً حاسماً في الدفع بالتقدم البيئي في العراق. فمن خلال المساعدة المالية والتقنية والقانونية المشروطة للمشاريع التي يقودها العراقيون، يمكن أن يحفز القيادة السياسية العراقية على تقديم التزامات حقيقية بالتحسينات البيئية. ويساعد نهجُ الدعم المشروط هذا على ضمان استخدام المساعدات الدولية بكفاءة. وبُغية الحصول على أكبر قدر من التأثير والكفاءة، ينبغي تنسيق المساعدات الدولية التي تُركز على تغيرّ المناخ وإدارة المياه مع كل من الخبراء العراقيين المستقلين ومنظمات المجتمع المدني، ما مِن شأنه تشكيلُ جبهة موحّدة لمواجهة التحديات البيئية في العراق.

هذه المقالة جزء من سلسلة مقالات ينشرها تشاتام هاوس وتهدف إلى تقديم رؤى متعمقة عن المجريات الداخلية للحكومة العراقية وتقييم ما يمكن للتطورات الأخيرة – المعلنة وتلك التي وراء الكواليس – أن تكشف عنه بشأن آفاق الوصول إلى دولة عراقية أكثر استقراراً وازدهاراً وخضوعاً للمساءلة.

وهذه السلسلة جزء من مسار العمل في الاقتصاد السياسي للإصلاح، ضمن إطار مبادرة العراق في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي يقودها مدير مشروع المبادرة الدكتور ريناد منصور.