الوجه المتغيّر للحوثيين

نُشر هذا المقال أولاً باللغة الإنجليزية في مجلة  New Lines

منذ أن بدأت الحرب على غزة في تشرين الأول/ أكتوبر 2023، قفزت إلى واجهة المسرح الدولي الجديد الصور المُعبّرة للحوثيين في اليمن وهم يطلقون الصواريخ على إسرائيل ويستهدفون الملاحة في خليج عدن. وقد تعهَّد عبد الملك الحوثي، الزعيم الروحي والاجتماعي والسياسي للجماعة بمواصلة هجماته على السفن المتجهة نحو إسرائيل، على الرغم من وقف إطلاق النار الذي دخل حيّز التنفيذ في 19 كانون الثاني/ يناير.

لقد جاء تصريحه بمثابة تذكير بأنّ الصراع في اليمن مستمر. ورغم طغيان النزاعات الدائرة في سوريا وفلسطين ولبنان وأوكرانيا ومناطق أخرى على الصراع الدائر في اليمن، إلّا أن اليمن يعاني من واحدة من أكثر الحروب دموية وتدميراً في العالم منذ عام 2014. أدّت هذه الحرب إلى وفاة وإصابة مئات الآلاف من الأشخاص على مدى أكثر من عقد من الزمن، فضلاً عن المجاعة الحادة ووجود آلاف الأشخاص المفقودين أو مجهولي المصير.

أصبح الحوثيون في صُلب هذه الحرب، بعد أن خرجوا من جبال صعدة الشمالية للسيطرة على البلاد، بدعم متزايد من إيران، ومنذ انقلابهم عام 2014، بعد سيطرتهم على العاصمة اليمنية صنعاء، أحكم الحوثيون قبضتهم على معظم شمال اليمن الذي يقطنه أكثر من 60% من سكان البلاد. لقد تمكّنوا من الحفاظ على هذه السلطة من خلال المزج بين القوة العسكرية والسيطرة الاجتماعية.

منذ بروزهم إلى الواجهة، لم يحارب الحوثيون اليمنيين فحسب، بل حاربوا المملكة العربية السعودية المجاورة، كما حاربوا إسرائيل في الآونة الأخيرة. ولكن، على الرغم من دورهم الكبير في الصراع، لا يزال الحوثيون من بين الجماعات التي لم يتم فهمها بقدرٍ كبير في العالم. حيث يقارنها خصومها اليمنيون في كثير من الأحيان بنحوٍ خاطئ بحزب الله اللبناني، أو تحجّمها الأطراف الإقليمية باعتبارها مجرد وكيل آخر لإيران، إلا أن مثل هذه المقارنات تفشل في فهم الطبيعة الحقيقية للجماعة. في حين تميل تحليلات الباحثين الغربيين إلى التركيز على فهم النموذج البيروقراطي للحوثيين.

أغلب هذه الرؤى تُغفل نقطة مهمة، وإن كانت بسيطة: فالحوثيون كيان يتطور باستمرار ولا يعمل كتنظيم هرميٍّ تقليدي. ورغم أهمية الطابع غير الرسمي للسياسة في اليمن، منذ عهد الرئيس السابق علي عبد الله صالح، الذي حكم البلاد لأكثر من ثلاثة عقود، إلا أنه لم يُكتب الكثير عن هذا الجانب، باستثناء كتاب سارة فيليبس ”اليمن وسياسة الأزمات الدائمة“ Yemen and the Politics of Permanent Crisis. بينما تستمر الجماعة نفسها في التطور، تتطور معها طبيعة التهديد الذي تشكله. غير أنّ الدبلوماسية والضغوط الدولية والإقليمية لم تتطور استجابةً لذلك، وبالتالي أخفقت جميع المساعي المبذولة لكبح جماح الجماعة حتى الآن.

بُغيةَ فهم ديناميّات الجماعة، يمكن للمرء النظر في ثلاثة جوانب رئيسية لتطورها. إذْ يُظهر صعود أشهَر مفاوضيها حتى عام 2014 وسقوطه، وهو صالح هبرة، أنّه لا أحد في الجماعة، باستثناء زعيمها عبد الملك الحوثي، يضمن بقاءه بمركزه فيها، بصرف النظر عن مستوى نفوذه. هذه هي الحقيقة الكامنة وراء التغييرات الدراماتيكية للقيادات داخل الجماعة، والإجابة عن الشكوى الدائمة للدبلوماسيين الدوليين من أنهم لا يعرفون من هو صاحب القرار الحقيقي بين من يتفاوضون معهم عادةً. بالإضافة إلى ذلك، تظهر الهياكل الحكومية المختلفة التي أنشأها الحوثيون، ثم حلّوها بشكل مفاجئ، مثل المجلس الأعلى لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والتعاون الدولي، أنّ هذه الكيانات تظهر وتختفي في لحظة، أو يعاد تكييفها بناءً على أهميتها للجماعة وما إذا كانت تخدم أغراضها أم لا.

إذا أخذنا هذه الجوانب في الحُسبان، فإن هذا يعني أننا نتعامل مع واحدة من أكثر المنظمات والجماعات في العالم تعقيداً -وللمفارقة، أبسطها في الوقت نفسه. لقد أتاح هذا للجماعة ليس فقط البقاء، بل مكّنها أيضاً من الازدهار وإثبات قوتها، لتغدو في نهاية المطاف تهديداً دولياً خطيراً عابراً للحدود. وهو ما يفسِّر أيضاً سبب فشل جميع الحروب التقليدية التي شُنت ضد الجماعة منذ عام 2004، وخروج الحوثيين منها أقوى في كل مرة.

يبيّن هذا المدخل التحليلي أيضاً كيف أن الحوثيين هم نتاج بيئتهم، وأنّهم يعملون ضمن حدود قواعد اللعبة السياسية اليمنية، بعيدا عن وجهة النظر الغربية التي تنظر إلى المسألة على أنها الدولة مقابل اللادولة، أو الهياكل الرسمية مقابل الهياكل غير الرسمية. بصفةٍ عامة، كانت سلطة الدولة في اليمن تُمارس منذ عهد صالح من خلال العلاقات الشخصية والشبكات غير الرسمية والتحالفات المتغيّرة. لا تزال هذه الآلية، التي يعمل فيها الأفراد والمنظمات والمؤسسات لصالح أجندات شخصية، في حين يظلّون خارج الهياكل الرسمية، في جوهر مقاربة الحوثيين للحكم والسلطة.

أوّل جانب من جوانب الجماعة التي يجب أخذها بعين الاعتبار هو أهمية المفاوضين الذين يعملون بصفتهم وكلاء للزعيم.

خلال العام 2013، انعقد في العاصمة صنعاء مؤتمر الحوار الوطني، وهو حوار ومرحلة انتقالية رعتها الأمم المتحدة وجمعت معظم الأطراف اليمنية، بما في ذلك الحوثيون، لمناقشة مستقبل البلاد والاتفاق عليه. حظي المؤتمر باحتفاء واسع النطاق باعتباره مثالاً ناجحاً نادراً على نجاح بلد من بلدان الربيع العربي في الانتقال ببطء، نحو إمكانية تحقيق الديمقراطية، دون حروب من النوع الذي شهدته سوريا وليبيا.

في ذلك الوقت، كان صالح هبرة يتفاوض مع أطراف من مختلف الأطياف السياسية اليمنية نيابة عن الحوثيين، وكان النفوذ الذي يتمتع به قويّاً إلى درجة أنه وقع أحياناً على الوثائق والاتفاقيات الرئيسية بعبارة ”صالح هبرة، عن عبد الملك الحوثي“.

مثَّل هبرة الجماعة الحوثية بأكملها في المحادثات، وكان الممثل الشخصي للزعيم الحوثي، متمرّساً في التفاوض نيابة عن الحركة، إذ اضطلع بتلك المهمة على مدار ستة صراعات منذ العام 2004، ولم يضطر في معظم تلك السنوات إلى الاتصال بعبد الملك الحوثي عبر الهاتف أثناء مفاوضاته، فقد كان قادراً على اتخاذ قراراته بنفسه.

إلّا أن الأمر اختلف لاحقا بشكل مفاجئ، إذ واجه هبرة منافسة متزايدة من آخرين سعوا لتمثيل الجماعة. عندما دخل الحوثيون صنعاء عام 2014، كان هناك شخص آخر وقّع نيابة عنهم (وثيقة السلم والشراكة). بعد 18 شهراً بين توقيعه على أوراق الحوار الوطني وسيطرة جماعته على العاصمة، وجد هبرة نفسه قد خرج من الحوار إيّاه، وقد عمِد منذ ذلك الحين إلى انتقاد ممارسات الحوثيين على تويتر وفيسبوك، ولا يزال من أشد المنتقدين.

فما الذي كان وراء زوال نعيمِ زعماء الحوثيين تجاه هبرة؟

مع مرور الوقت، أصبح من الواضح أن هبرة ذهب ضحية للآلة السياسية الحوثية المتعاظمة، التي أخذت قوتها تتنامى في صورة المكتب السياسي للحوثيين وهياكل أخرى متعددة.

عندما تولّى عبد الملك الحوثي قيادة الجماعة، ورث تنظيماً كان يعتمد إلى حد كبير على الروابط القبلية لعائلته في صعدة، وقاعدة صغيرة من أنصار الهاشميين في أنحاء اليمن والخليج. لقد اكتسب الحكام الهاشميون تاريخياً الشرعية من نسَبهم إلى النبي محمد، ويتعاطف البعض مع المذهب الزيدي الشيعي الذي يتبعه الحوثيون والذي يشترط أن يكون الحكام (الأئمة) من نسل النبي محمد. لكن، وعلى عكس دول مثل الأردن والمغرب، لا يحظى الهاشميون بشعبية كبيرة في اليمن لأنهم مرتبطون بواحدة من أقسى السلالات التي حكمت اليمن لقرون عديدة.

كان حسين الحوثي، شقيق عبد الملك، هو من قاد الجماعة في الأصل منذ البداية، لكن صالح أمر باعتقاله، وقُتل على يد الجيش عام 2004. تولّى عبد الملك القيادة بعد ذلك، وكان يحتوي الأفراد أو يقصيهم بناءً على قربهم من مسقط رأسه في صعدة ودعمهم المبكر للحركة. استوفى هبرة جميع الشروط: فقد كان من نفس منطقة عبد الملك، وهو رجل ذو مكانة قبلية، ومن أوائل المؤيدين للجماعة. نتيجة لذلك، تمتّع بمستوى لا جدال فيه من الثقة والسلطة. كان هبرة يتمتع أيضاً بشيء لم يكن يتمتع به عبد الملك: فقد كان مفاوضاً سياسياً ماهراً يفهم ديناميات السلطة في العاصمة صنعاء ويعرف كيف يتعامل معها. وكان عمره ضعف عمر عبد الملك تقريباً.

طرأ تغيران مهمّان على الموقف: نمت حركة الحوثيين بشكل كبير، وفي خضمِّ تطور علاقاتها مع إيران، سعى الحوثيون في بعض الأحيان إلى استنساخ النموذج التنظيمي لحزب الله.

عندما اندلعت انتفاضة 2011، التي أطاحت بنظام صالح وأتاحت للحوثيين التوسّع علناً وأن يصبحوا أكثر وضوحاً أمام الشعب اليمني الأوسع، بدأ الحوثيون من الناحية العملية بنصب خيامهم الاحتجاجية داخل ساحة التغيير في صنعاء، إلى جانب خيام الأحزاب السياسية المعارضة الأخرى وحركات التغيير. وقد أدّت أنشطتهم إلى انضمام مجموعة واسعة من اليمنيين من مختلف أنحاء اليمن إلى تحالفهم المعروف باسم ”شباب الصمود“. كما أنهم سرعان ما استولوا على محافظة صعدة بأكملها بالقوة وعيّنوا تاجر السلاح فارس منّاع المدرج على لوائح عقوبات الأمم المتحدة محافظاً لها ليكون واجهة للمحافظة نيابة عنهم.

كما أن حقيقة كون الحوثيين لم يعودوا فصيلاً خفيّاً مجرَّماً في الجبال أدّت، أيضاً، إلى ظهور مئات القادة الجدد من المستوى المتوسط داخل الجماعة. حيث كشف أولئك الذين كانوا يُخفون دعمهم للجماعة عن أنفسهم. وسرعان ما شكَّلت الجماعة هياكل تنظيمية جديدة لبناء قاعدة قوتها وإدارة أهدافها السياسية. شملت هذه الهياكل إدارة اجتماعية كانت مسؤولة عن تجنيد القبائل. وقد نظّم الحوثيون فعاليات، مثل إقامة الإفطارات الرمضانية الجماعية في صنعاء ومختلف التجمعات العامة في صعدة ومختلف أنحاء الشمال.

لكن الهيكل الجديد الحاسم كان المكتب السياسي، وهذه الأداة هي التي استمرت في النمو. يُظهِر المكتب انصهار الهياكل الهرمية واستمرار أهمية العلاقات الشخصية داخل حركة الحوثيين. في نهاية المطاف، وفي حين أن هبرة كان في الواقع أوّل رئيس للمكتب السياسي، إلّا أن أعضاء المكتب السياسي كانوا جميعاً معيّنين من قِبل عبد الملك وموالين له مباشرة.

لقد نما المكتب بشكل كبير وغامض، لدرجة أنّ أحداً لا يعرف اليوم عدد أعضائه، أو حتى ما إذا كان عددهم بالعشرات أو المئات. واليوم، ينشر المكتب جميع البيانات والمواقف باسم الحوثيين. وعلى الرغم من عضويته غير المعروفة، إلا أنه الجهاز السياسي الأبرز للجماعة. وقبل حرب 2015، كان المكتب يعقد اجتماعاته بانتظام في حي الجراف بصنعاء، المقر الوحيد المعروف للجماعة.

كان المكتب السياسي هو الإطار الذي استوعب فيه الحوثيون كبار القادة الاجتماعيين والسياسيين من مختلف أنحاء اليمن، وكان يلعب دور الاستعراض والتوعية نيابة عن الجماعة. وقد عكست العضوية فيه المكانة المرموقة للأفراد النافذين. وفي حين أن الأحزاب السياسية التقليدية كانت تقودها النخب القديمة ولم يكن لديها انتخابات داخلية أو تجنيد داخلي للأعضاء، كان الحوثيون ينشطون في تجنيد أنصار جدد في جميع أنحاء اليمن. وسُرعان ما بدأ المكتب باستيعاب رجال من ذوي الوجاهة الاجتماعية أو القبلية أو الدينية، لطالما أظهروا مستوى لا يقبل الشك في ولائهم للجماعة، ولزعيمها على وجه التحديد. وقد تشمل المعايير، على سبيل المثال، عدد المرات التي حضروا فيها المخيمات أو التجمعات الثقافية الدينية الحوثية، أو-وهو الأهم -عدد أقاربهم (الأبناء أو الإخوة) الذين أرسلوهم للقتال مع الجماعة.

بفعل تطور الجهاز السياسي للحوثيين، بدأ دور الأفراد مثل هبرة وتأثيرهم يتضاءل لصالح التنظيم الآخذ في التوسع وهياكله الجديدة، حيث أصبح الأفراد منضوين تحت الجماعة. مع بروز المزيد من مراكز القوة داخل الجماعة، أصبحت شخصيات مثل هبرة غير ذات أهمية على نحو متزايد. فبعد أن مُنح إمكانية الوصول غير المقيّد إلى عبد الملك الحوثي، وأصبح موضع ثقة في أي قضية، أصبح هبرة فجأةً يواجه منافسين جدداً. علاوة على ذلك، بغض النظر عن من يكون الشخص الذي يتعامل مع مسألة على الأرض أو يتعامل مع أي قضية، صار لزاماً عليه العودة إلى ”مكتب عبد الملك“، فقد أصبحت عملية صنع القرار أكثر مركزية.

ما ترويه لنا قصة هبرة أيضاً، هو أنّ الجدارة داخل الجماعة تتجاهل الأقدمية طالما ثُبت الولاء لرؤيتها وقائدها. بالإضافة إلى ذلك، لم يُمكَّن أولئك الذين برزوا في وقت لاحق باعتبارهم صناع قرار بالطريقة التي كان عليها وضع هبرة في السابق. على عكس المتوقع، بدا أن تطوير المكتب السياسي الكبير قد أضفى طابعاً مؤسسياً على حكم عبد الملك المباشر.

من العوامل الأخرى التي أسهمت في سقوط هبرة من السلطة؛ صعود حزب الله ونفوذ إيران داخل الجماعة. فقد أدى انخراط إيران في بناء القدرات وإعادة الهيكلة الداخلية إلى إزاحة شخصيات مثل هبرة لصالح المظلة العسكرية الأكبر للجماعة. ومع استمرار الحرب بعد عام 2015، ازداد دور إيران داخل الجماعة وتراجع دور المزيد من القادة المحليين مثل هبرة.

اليوم، تشمل الهيكلية الداخلية للحوثيين المجلسَ الجهادي والمكتب السياسي والمتحدث الرسمي (الذي كان شخصية مجهولة حتى عام 2011)، حيث يشغلون أدواراً كان هبرة يمسك بجميعها.

أصبح هبرة مضطرا لتغيير حساباته على فيسبوك بشكل متكرر، ويشكو في منشوراته من تعرّضه للاختراق من قِبل مخابرات الحوثيين. حتى أن بعض مقربيه السابقين محتجزون الآن لدى الحوثيين في صنعاء. وعلى الرغم من تهميشه بشكل متزايد من قِبل عبد الملك والجماعة بشكل عام، إلا أن هبرة يحظى باحترام كبير بين أعضاء الجماعة وأنصارها. وقد أكسبه دوره السابق كمفاوض باسم الجماعة مُستوى من الاحترام لا يضاهيه سوى قِلة من الآخرين. كما أن قصف المملكة العربية السعودية لمنزله وقتلِ ولديه عام 2015، حتى بعد تنحّيه عن الواجهة، عزّز من شرعيته -وإن كان خارج دوائر صنع القرار في الجماعة،فهذا كله لم يسمح له بالبقاء في قيادة الجماعة. مع ذلك، إذا تغيرت الأوضاع على الأرض واحتاج الحوثيون، من أجل البقاء، إلى العودة إلى وجوه مألوفة مثل هبرة والتصالح مع الفصائل اليمنية الأخرى، فإن قليلين سيفاجؤون بعودته.

في الثاني من كانون الأول/ ديسمبر 2017، اندلعت المعركة التي طال انتظارها بين صالح والحوثيين في صنعاء. فمنذ التحالف الأول غير الرسمي بين الطرفين عام 2014، وتحالفهما الأكثر رسمية منتصف العام 2016، بعد أن بدأت السعودية والإمارات العربية المتحدة بقصفهما، لطالما نظر المراقبون إلى شراكتهما على أنها ”زواج مصلحة“ -أي تحالفٌ مؤقت لا بد أن ينهار بمجرد أن يتمكن أحد الطرفين من الانقلاب على الآخر.

كانت السرعة التي انهارت بها قوات صالح في مواجهة الحوثيين هي ما فاجأ الكثيرين،، رغم الدعم الجوي من الإمارات والسعودية. في غضون أيام، انتهت المعركة وقُتل صالح بوحشية خارج قريته سنحان أثناء محاولته الفرار من صنعاء. لقد تفككت قوات الحرس الجمهوري وقوات الأمن المركزي والوحدات العسكرية الأخرى المتحالفة مع صالح التي كانت ذات يوم قوية -والتي درَّبت الولايات المتحدة العشرات من أفرادها وجهّزَتهم – بسرعة فاقت انهيار قوات بشار الأسد في سوريا في كانون الأول/ ديسمبر 2024.

بالنسبة إلى المتابعين عن كثب، لم تكن هذه الأحداث مفاجئة. فعلى مدى سنوات، كان الحوثيون يستقطبون قوات صالح بهدوء، ويدمجونها تدريجياً في صفوفهم، في الوقت الذي كانوا يبنون فيه إمبراطورية عسكرية وتسليحية موازية خارج هيكل الدولة اليمنية الرسمي، وعندما بدأت السعودية والإمارات بقصف اليمن، كانت القواعد والوحدات العسكرية التي ظلت تابعة لصالح هي المستهدفة إلى حد كبير، في حين بقيت قوات الحوثيين ووحداتهم وحتى قيادتهم سالمة وغير معروفة بالأساس إلى حد كبير.

قبل ذلك، وحين بدأ الحوثيون بالزحف نحو صنعاء عام 2014، سرعان ما انهارت وحدات الجيش اليمني غير الموالية لصالح. وبحلول 21 أيلول/ سبتمبر 2014، كانت المدينة قد سقطت في أيدي الحوثيين. خلال تلك الفترة، كانت العلاقة بين الحوثيين وقوات صالح غير رسمية وبسيطة: فقد اتفق الطرفان على البقاء على الحياد أو التزام الصمت، والامتناع عن الدخول في معارك ضد بعضهما. وعشيَّة 21 أيلول/ سبتمبر، أرسل عبد الملك الحوثي اتفاقاً سرياً إلى صالح وقعه الرجلان، تعهدا فيه رسمياً بعدم الانخراط في أعمال عدائية أو التحالف ضد بعضهما.

عام 2015، دخل صالح والحوثيون في تحالف عسكري رسمي، عندما بدأت السعودية والإمارات ضرباتهما العسكرية على اليمن. وتحالفت وحدات صالح العسكرية، وجنرالاته ممن كانوا تحت سيطرته لفترة طويلة، مع الحوثيين. كانت ترتيبات تقاسم السلطة واضحة، وإن كانت غير متكافئة: فقد احتفظ الحوثيون بالسيطرة على القوات التي بنوها على مر السنين، بينما تشاركوا مع الموالين لصالح في إدارة القوات العسكرية التقليدية.

كانت القوات العسكرية التقليدية، التي تركزت إلى حد كبير في خمس مناطق عسكرية، تحت قيادة جنرالات عسكريين رفيعي المستوى، وبحلول عام 2018، أصبحت جميع هذه المناطق تحت سيطرة الحوثيين. وقد سمحت الطبيعة الرسمية لقوات صالح للحوثيين باستيعابها واحتوائها بسهولة: كان لدى الحوثيين جداول الرواتب والوحدات والبيانات الخاصة بكل قوات صالح. في المقابل، لم يكن لدى صالح أي معلومات عن الحوثيين، فقد ظل هؤلاء منغلقين على أنفسهم ومنظّمين عبر علاقات شخصية. ظلت قوات الحوثيين الصرفة، التي شملت وحدات ما قبل عام 2014 وما بعده، منفصلة عن وزارة الدفاع اليمنية وعن الشراكة مع صالح.

بقيت هذه القوات غير مرئية إلى حد كبير للعالم الخارجي. وهي تشمل لاحقا وحدات متخصصة جديدة مثل قوات الطائرات المسيّرة، ووحدات الصواريخ الباليستية، والقوات الخاصة، والتصنيع العسكري المحلي المتنامي، وما يسمى بـ ”قوات الاحتياط“ التي تتخذ من صنعاء مقراً لها، بقيادة عبدالخالق الحوثي.

لهذا السبب أيضاً فإن مقارنة الحوثيين بحزب الله اللبناني مضللة إلى حد ما. صحيح أن للحوثيين هيكلية مشابهة لحزب الله -”مجلس جهاديّ… إلخ“ وشبكة تعمل خارج الدولة -لكنهم يشبهون إيران أيضاً، من حيث إن لديهم أيضاً هيكلية جيش أكثر تقليدية، إلى جانب هياكل عسكرية غير رسمية. بالإضافة إلى ذلك، وعلى عكس حزب الله، يواصل الحوثيون حتى اليوم الحفاظ على مستوى معين من الاستقلالية عن إيران.

بالعودة إلى علاقتهم بطهران، ووفقاً للعديد من القادة والمسؤولين الحوثيين الذين قابلتهم، لم تكن إيران في البداية مؤيدة للهجمات الأخيرة للحوثيين في البحر الأحمر. مع ذلك، مضى الحوثيون قدماً في هذه الهجمات، معتبرين أن ذلك سيوسع نفوذهم وسيطرتهم المحلية على السلطة، وأنه لا يهم ما يعتقده أو يريده حليفهم الأساسي. كانت حسابات يمنية حوثيّة بحتة، ولم يكن يهمهم أن ذلك سيؤدي إلى مصرع أو -في أفضل الأحوال -تأخير خريطة طريق السلام التي كانوا على وشك توقيعها مع نظرائهم اليمنيين والمملكة العربية السعودية.

يُظهر إحلال المكتب السياسي محلّ صالح هبرة، واستيلاء الحوثيين على الجيش اليمني، كيف توسعت الحركة الحوثية وتكيّفت مع بيئتها، دون أن تتخلى بشكل كامل عن هياكلها الشخصية وغير الرسمية. وحتى عندما يبدو أن الحوثيين يضعون السلطات الرئيسية في أيدي الهياكل الرسمية، فإن السلطة تبقى في نهاية المطاف خارجها وتبقى الهياكل عرضة للتغيير. فهي توجد أو تختفي بناءً على أهميتها وقدرتها على الاستجابة لنمو الجماعة ودينامياتها المتغيّرة باستمرار.

في مثال آخر، وفي تشرين الثاني/ نوفمبر 2024، ألقى جوليان هارنز، المنسق المقيم للأمم المتحدة في اليمن، محاضرة في لندن، أوضح فيها أنه وعلى مدى سنوات، كان هو وجميع أسلافه يتعاملون مع كيان رئيسي واحد داخل الحوثيين -هيئة مركزية تبدو قوية ينسقون من خلالها إيصال مليارات الدولارات من المساعدات إلى المناطق التي يسيطر عليها الحوثيون. إلا أنه قبل أسابيع فقط من حديثه، استيقظ في صنعاء على مذكرة من الحوثيين تُبلغه رسمياً بحل المجلس الأعلى لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والتعاون الدولي. جاء في المذكرة أنه سيتعيّن عليه من الآن فصاعداً التنسيق مباشرة مع وحدة داخل وزارة الخارجية.

بينما كان مسؤول الأمم المتحدة جالساً على المنصة، بدا أنّ الكثير من الحاضرين في القاعة وعلى الإنترنت متشكّكين، وقد تساءلوا مراراً وتكراراً عمّا إذا كان المجلس الأعلى لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والتعاون الدولي قد حُلَّ حقاً. على مدى سنوات، كان المجلس يُدار من قِبل الحوثيين الأيديولوجيين المتشددين، وكانت له وظيفتان أساسيتان: توجيه المساعدات وتحويلها قدر الإمكان إلى المنظمات المتحالفة مع الحوثيين وإلى أعضاء الجماعة، وفي الوقت نفسه التحكم في حركة وكالات الإغاثة لمنع الإشراف أو المراقبة المستقلة الحقيقية على المساعدات.

يجب أن يُنظر إلى قرار الحوثيين بتفكيك المجلس في سياقهم هم. فقد انخفضت المساعدات المقدمة إلى المناطق الخاضعة لسيطرتهم بشكل كبير، خاصة بعد أن أوقفت الأمم المتحدة العمليات غير المنقذة للحياة، وخفضت الجهات المانحة الرئيسية مثل ألمانيا والولايات المتحدة والمملكة المتحدة التمويل في أعقاب هجمات الحوثيين في البحر الأحمر. كما اكتشف الحوثيون أيضاً فساداً داخلياً كبيراً داخل المجلس، حيث يقبع بعض قادته الآن في السجن. بالإضافة إلى ذلك، وربما الأهم، كانت الرقابة والتنظيم التي فرضها الحوثيون بالفعل على المنظمات العاملة في مناطقهم قوية. في نهاية المطاف، وكما هو الحال مع هبرة، لم يعد المجلس ضرورياً لنمو الحوثيين أو لحياتهم اليومية. بل أصبح في الواقع عبئاً بسبب سمعته المشوهة في أوساط المانحين ومنظمات المجتمع المدني.

كان هناك أيضاً عنصر شخصي وأكثر أهمية في القرار: كان وزير الخارجية المعيّن حديثاً، جمال عامر، الذي تولى منصبه قبل أسابيع فقط، حليفاً موثوقاً لعبد الملك الحوثي وشخصية رئيسية داخل الأجهزة الأمنية للجماعة. كل هذه العوامل أعطت عبد الملك والحوثيين سبباً لحل المجلس بمجرّد أن رأوا أن الوقت قد حان. وقد أدى وجود شخصية أكثر ثقة في الوزارة إلى تحقيق الغرض منه.

وهكذا، في خروج عن الأعراف البيروقراطية المعتادة في المنطقة -حيث تستمر المؤسسات إلى أجل غير مسمى بمجرد إنشائها – فكك الحوثيون المؤسسة ذاتها التي كانت تظهر على كل هيكل تنظيميّ عن الجماعة لدى أي باحث غربي، لأنهم -الحوثيون -ببساطة لم يعودوا يرون أنها مفيدة أو ضرورية.

ليس ثمّة مِن قواعد لعب ثابتة لكيفية استعراض الحوثيين لسلطتهم؛ فهي تتغير وتتطور باستمرار جنباً إلى جنب مع الجماعة نفسها. ولئن تحوّل نهجهم في بعض الأحيان إلى هياكل أو منظمات أكثر رسمية، إلّا أن السلطة لا تزال تُستعرض في المقام الأول على أساس يومي من خلال أفراد موثوقين، خاصة عندما لا تكون الجماعة قد عززت سيطرتها الكاملة على الدولة.

عندما سيطر الحوثيون على صنعاء لأول مرة في عام 2014، لم يعيّنوا حلفاءهم في مناصب وزارية. بدلاً عن ذلك، قبلوا بحكومة تكنوقراط بقيادة السفير اليمني في كندا حينها، واكتفوا بممارسة السلطة من وراء الكواليس، حيث كانت ما تسمى بـ “اللجان الثورية”، بقيادة أحد أبناء عمومة عبد الملك، محمد علي الحوثي، قد تولّت الإشراف على عمل الوزارات الحكومية، مما أدى فعلياً إلى تفكيك أدوار كبار المسؤولين داخل تلك المؤسسات، مع ذلك، عندما اندلعت الحرب في كانون الثاني/ يناير 2015 واستقالت حكومة التكنوقراط احتجاجاً على هجوم الحوثيين على الرئيس عبد ربه منصور هادي آنذاك، بدأ الحوثيون في إضفاء الطابع الرسمي على سيطرتهم المباشرة على الحكومة.

في تموز/ يوليو 2016، توصّل الحوثيون إلى اتفاق مع صالح وحزبه، وعندها حلّوا اللجان الثورية ودخلوا في تحالف جديد مع صالح. ووفقاً للعديد من المطّلعين، كانت هذه الخطوة في الواقع محاولة من عبد الملك ليس فقط لإضفاء الطابع الرسمي على الشراكة مع صالح، بل الأهم من ذلك هو انتزاع السلطة من ابن عمه محمد علي الحوثي الذي كان رئيس تلك اللجان والذي أصبح بالفعل قوياً للغاية. لكن بعد مقتل صالح في نهاية المطاف في عام 2017، تحرك الحوثيون بشكل حاسم لتوطيد سلطتهم، وسيطروا بشكل كامل ومباشر على مؤسسات الدولة وقلّلوا من أي معارضة متبقية. وبدأوا مباشرة بتعيين جميع أقارب عبد الملك وأبناء قبائل صعدة في مناصب وزارية ومناصب عليا.

بالعودة للسياق أعلاه، كانت أسباب تفكيك المجلس الأعلى لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والتعاون الدولي، هي نفسها أسباب إنشائه: التكيّف لتوطيد السلطة وتهميش المؤسسات غير الخاضعة للرقابة. في الأصل، لم يكن للمجلس أي وجود في اليمن، وحتى لم يكن له أيّ أساس قانوني، وكان يقوم خارج القانون، بعمل وزارة التخطيط والتعاون الدولي. عندما شُكِّلت حكومة تقاسم السلطة بين صالح والحوثيين في 2016-2017، كانت وزارة التخطيط والتعاون الدولي ضمن ”حصة“ حزب صالح في مجلس الوزراء. لم يثق الحوثيون أبداً في الوزارة لأنها كانت على صلة جيدة بالعالم ومليئة بالتكنوقراط اليمنيين بدلاً عن المحاربين القبليين الحوثيين غير المؤهلين، ولكن الموالين لهم. على هذا النحو، كان ذلك من أجل تهميش صالح كلياً، مع التزامهم في نفس الوقت بالشراكة النظرية معه، فأنشأوا المجلس الأعلى لإدارة وتنسيق الشؤون الإنسانية والتعاون الدولي.

إذا كان المرء يتبنّى نظرية ابن خلدون عن الصعود والهبوط الدوري للإمبراطوريات، فقد يكون الحوثيون في المراحل الأخيرة من صعودهم، مع ما يتبع ذلك من هبوط حتمي. بمرور الوقت، وعبر مراحل مختلفة، وفي ظل ظروف مختلفة، اجتازت الجماعة جميع المراحل الأولية لتكوين الدولة -وأبرزها الانتقال من المعاقل الجبلية إلى القصور في العاصمة.

من اللافت للنظر أن هذا التحول قد حدث في غضون فترة زمنية قصيرة للغاية، بالنظر إلى أن الحوثيين شنوا حربهم الأولى قبل أقل من 20 عاماً. وحده الوقت سيكشف إلى متى سيستمرون في هذه المرحلة الأخيرة، وما إذا كان مسارهم سيتبع نمط الدورات السابقة.

هناك شيء واحد مؤكد حاليا، وهو أنّ الجماعة آخذة بالتطور خارج سيطرة شبكة عبد الملك الحوثي وولاءاته -بغضّ النظر عن مدى محاولته الإبقاء على تلك السيطرة. لقد نجت الجماعة من الحروب والاضطرابات الإقليمية، وهي تواجه الآن تحديات جديدة تهدد بقاءها ونموها. وستشكل أهميتها المتزايدة مؤخراً في ”محور المقاومة“ بعد سقوط الأسد وإضعاف حزب الله تحدياً آخر. فهل ستتمكن الحركة من البقاء كحركة محلية يمنية أم أنها ستسلك نفس مسار حزب الله -تنمو إقليمياً وعالمياً إلى أن تنفجر هي الأخرى؟