الصراع على الهيمنة السياسية داخل السلطة القضائية في العراق

طفا إلى السطح مؤخّراً صراعٌ محتدمٌ بين اثنين من أبرز الشخصيات القضائية في العراق، مثيراً القلق من تزعزع الاستقرار السياسي في البلاد. هذا الأمر قد يهدّد عملية بناء الدولة التي تعاني أصلاً من الهشاشة، وقد يؤدي أيضاً إلى اندلاع عنفٍ طائفي. في الظاهر، يبدو النزاع بين المحكمة الاتحادية العليا ومجلس القضاء الأعلى حول السلطات القانونية والاختصاص، لكنه في الحقيقة صراعٌ قائمٌ على رغبة رئيسيّ المؤسستين، جاسم العميري وفائق زيدان، في التفرّد بالقرار القضائي في المسائل السياسية. ومع كون المحكمة الاتحادية العليا الجهة المخوّلة دستورياً بإصدار الأحكام في النزاعات الدستورية والسياسية، إلا أنها تواجه تحدّياً متزايداً لسلطتها في هذا المجال منذ إنشاء مجلس القضاء الأعلى في عام ٢٠١٧. هذا الانقسام داخل السلطة القضائية لا يهدّد فحسب بعرقلة أي جهودٍ للإصلاح على المستوى الوطني، بل سيؤدّي أيضاً إلى تأخير التشريعات والحد من قوّتها. إنّ اختيار أيٍّ من المؤسستين لجانبٍ سياسيٍ على حساب الجوانب الأخرى، قد يسمح للطبقة السياسية بتجنب المساءلة.

آخر مواجهةٍ بين هاتين الجهتين جاءت بعد إقرار مجلس النواب، في شهر يناير/كانون الثاني المنصرم، ثلاثة قوانين تتعلق بالأحوال الشخصية والعفو العام وإعادة العقارات، وقد مُرّرت تلك القوانين لاسترضاء الجماهير الشيعية والسنية والكردية على حدٍّ سواء. وبدلاً من التصويت على القوانين كلٌّ على حدة، اختار أعضاء مجلس النواب التصويت على هذه القوانين المثيرة للجدل في سلّةٍ واحدة وعبر تصويتٍ واحد. تسمح هذه القوانين بالاعتراف بالممارسات الدينية المحافظة بدلاً من القانون المدني في مسائل مثل الزواج، وتسهّل منح العفو لعشرات الآلاف من المجرمين المدانين، بمن فيهم القتلة والمتورطون في الفساد، وقد تؤدي إلى إشعال نزاعاتٍ محلية على الأراضي والممتلكات على أساسٍ عرقيٍّ وطائفي. لقد أعربَ جملةٌ من البرلمانيين عن استيائهم الشديد من العملية، مشيرين إلى ما أحاطها من مخالفات مثل عدم التصويت على كل قانونٍ على حدة، وغياب القراءة الشاملة للتعديل المقترح على قانون العفو العام، وعدم التحقق من اكتمال النصاب القانوني، والفوضى في احتساب الأصوات بسبب استخدام رفع الأيدي بدلاً من التصويت الإلكتروني، ناهيك عن انتهاك رئيس مجلس النواب للعديد من الإجراءات البرلمانية. أظهرت هذه الهواجس انهياراً في اتباع سياقات العمل البرلماني، الأمر الذي قد يؤدّي إلى تقويض المساءلة. وقد أدّى ذلك إلى محاولةٍ للإطاحة برئيس مجلس النواب وإلى رفع عدة دعاوى أمام المحكمة الاتحادية العليا للطعن في دستورية القوانين.

في الثالث من فبراير/شباط الجاري، وبينما كانت المحكمة الاتحادية العليا تنظر في هذه القضايا، أعلن مجلس القضاء الأعلى عن تشكيل لجانٍ قضائية للبدء في تحديد السجناء المشمولين بالعفو طبقاً لقانون العفو العام، لكن المحكمة الاتحادية العليا أصدرت في اليوم التالي أمراً ولائياً بتعليق تنفيذ القوانين الثلاثة حتى تتمكن من البتّ في شرعيتها. عمل السياسيون على تأطير الجدل الذي تبع ذلك الأمر إطاراً طائفياً، حيث لمّحت الأحزاب السنية إلى أن المحكمة الاتحادية العليا تنصاع لرغبة الأحزاب الشيعية في إيقاف العفو وإحراج السياسيين السنة الذين كانوا يدفعون باتجاهه. وهكذا أعلنتِ الحكومات المحلية في محافظات الأنبار وكركوك ونينوى وصلاح الدين إغلاق دوائرها احتجاجاً على قرار المحكمة الاتحادية العليا، واستغلّ مجلس القضاء الأعلى هذا الغضب ليصدر بياناً ينتقد فيه المحكمة الاتحادية العليا بدعوى تجاوز مجال اختصاصها وحدود صلاحياتها، ربّما بأمل أن تكون هذه لحظةً فاصلةً من شأنها إكساب المجلس دعماً سياسياً دائماً على حساب المحكمة الاتحادية العليا.

منذ عام 2005 وحتى 2017، كان رئيس المحكمة الاتحادية العليا هو من يرأس السلطة القضائية، لكنّ تمرير قانون إنشاء مجلس القضاء الأعلى وإنفاذه في ٢٠١٧ سمح بنقل هذا الدور إلى رئيس المجلس. حظي صعود زيدان بدعم عناصر قوية في الطبقة السياسية عادّين إياه وسيلةً لموازنة قوة المحكمة الاتحادية العليا. عندما أعيد تشكيل المحكمة الاتحادية العليا في 2021، أشرف زيدان على عملية ترشيح القضاة لها، داعماً جاسم العميري لمنصب رئيس المحكمة، ليكتشف سريعاً بأن العميري لم يكن سهل الانقياد كما توقّعه. منذ ذلك الحين، أخذت المحكمة الاتحادية العليا دوراً سياسياً بارزاً يفوق الدور الذي تمتّعت به قبل 2021، فقد أصدرت على سبيل المثال، أحكاماً أجهضت فعلياً محاولة تشكيل حكومة أغلبيّة بقيادة مقتدى الصدرومحمد الحلبوسي ومسعود البرزاني في 2022. في المقابل، تبنّى مجلس القضاء الأعلى سياسةً تهدف إلى تعزيز مركزية القضاء، متصدّياً بضراوةٍ للمنتقدين. عطفاً على كل ذلك، أصبحت السلطة القضائية فاعلاً مؤثّراً في النظام السياسي، وغدا من المستحيل إجراء مساءلة حقيقية أو إصلاح في ذلك النظام دون موافقتها.

وفي مايو/أيار 2024، حاولت محكمة التمييز، التي يترأسها فائق زيدان نفسه، إلغاء حكم المحكمة الاتحادية العليا لصالح قاضٍ طعن في قرار زيدان بإجباره على التقاعد. مجدّداً، طعنت المحكمة ذاتها في صلاحيّات المحكمة الاتحادية العليا مرةً أخرى في 10 فبراير/شباط ٢٠٢٥ بخصوص القوانين الثلاثة المثيرة للجدل، لكن في اليوم التالي، قضت الأخيرة بأن تمرير القوانين الثلاثة شرعيٌّ وأبطلت الأمر الولائي الذي كان يمنع تنفيذها. وفي حين بدا أن هذه الجولة من الصراع بين المحكمة الاتحادية العليا ومجلس القضاء الأعلى قد انتهت بالتعادل، إلا أنه من المرجح أن يحاول مجلس القضاء الطعن في المحكمة الاتحادية مرةً أخرى مستقبلاً.

أحد الحلول الواضحة وسهلة التنفيذ لإنهاء هذا النزاع، هو الرجوع إلى المادة 2 من قانون مجلس القضاء الأعلى لعام 2017 التي تنصّ على أن يكون رئيس محكمة التمييز الاتحادية رئيساً للمجلس، وتعديلها ليصبح رئيس المحكمة الاتحادية العليا هو نفسه رئيس مجلس القضاء الأعلى. لا يتطلّب إجراء هذا التعديل إلّا تصويت مجلس النواب بالأغلبية، وسيكون ذلك بمثابة عودةٍ إلى الطريقة التي كان يُدار بها القضاء قبل 2017. من الممكن أيضاً تحقيق ذلك عن طريق تمرير قانونٍ جديد للمحكمة الاتحادية العليا يؤدي إلى نفس النتيجة. هناك حلٌّ آخر يتمثل في تعديل المادة 94 من الدستور والتي تنصّ على أن “قرارات المحكمة الاتحادية العليا باتّة وملزمة للسلطات كافة”، بحيث يمكن لمحكمة التمييز الاتحادية إلغاء قرارات المحكمة الاتحادية العليا عند الاستئناف، مما يمنح مجلس القضاء اليد العليا، بيد أن هذا أصعب، نظراً للتعقيدات المتعلقة بتعديل الدستور، والتي تقتضي إجراء استفتاءٍ وطني.

ومع ذلك، فمن غير الواضح ما إذا كانت أيّ من هذه الخطوات ستُحسّن فعلياً آفاق الإصلاح في العراق، إذ أن القضاء نفسه ليس خلوّاً من التسييس والتواطؤ في الوقوف بوجه إنفاذ المساءلة.

هناك حلٌّ وسطيّ من شانه الحفاظ على تقاسم السلطة داخل القضاء، يتمثّل في تعديل قانون مجلس القضاء الأعلى لينص بوضوح بأنه ليس للمجلس استئناف قرارات المحكمة الاتحادية العليا أو إبطالها أو التحقّق منها أو انتقادها أو الطعن فيها، وهو ما يعزّز المادة 94 من الدستور. ربّما يكون هذا الحل هو الأكثر مقبوليةً للطبقة السياسية لأنه قد يسهم في منع القضاء من أن يصبح أقوى مما هو عليه في الوقت الحالي، وذلك من خلال الحفاظ على وجود قطبين داخل السلطة القضائية بدلاً من تفرّد أحدهما.

ومع اقتراب موعد الانتخابات المقرّر إجراؤها في وقتٍ لاحق من هذا العام، فإن تنفيذ أيٍّ من تلك الحلول يجب أن يتم بسرعة. ففي حال الطعن في نتائج الانتخابات، كما حدث في السابق غير مرة، أو تكرار الانسداد السياسي الذي شهده العراق عام 2021-2022، ستتجه الطبقة السياسية إلى القضاء للفصل في النتيجة. في 2022، تمكّنت المحكمة الاتحادية العليا ومجلس القضاء الأعلى من توحيد موقفهما والاتفاق على مسارٍ أرضى المتخاصمين داخل الطبقة السياسية، وكان من شأن هذا الاتفاق الحفاظ على توازن النظام السياسي. ولكن إذا لم تُحلّ النزاعات بين طرفي السلطة القضائية أو تصاعدت لتصل بهما للوقوف على طرفي نقيض في المنافسة السياسية، فقد يصل الأمر إلى تهديد سلامة الدولة أو ما لا يُحمد عقباه. إن وجود سلطة قضائيةٍ منقسمة سيحيل أي جهودٍ إصلاحيةٍ إلى ساحة معركة، إذ ستستغل الطبقة السياسية هذا الانقسام لإبقاء الوضع الحالي على ما هو عليه.

 

هذه المقالة جزءٌ من سلسلة مرصد الإصلاح التي ينشرها تشاتام هاوس، وتهدف إلى تقديم رؤى متعمقة حول المجريات الداخلية للحكومة العراقية، وتقييم ما يمكن للتطورات الأخيرة – المعلنة وتلك التي وراء الكواليس – أن تكشفه بشأن آفاق الوصول إلى دولة عراقية أكثر استقراراً وازدهاراً وخضوعاً للمساءلة. كما يهدف مرصد الإصلاح إلى تقديم توصيات سياساتية للحكومة العراقية وصنّاع القرار الدوليين والمنظمات المتعددة الأطراف والمنظمات غير الحكومية العاملة في العراق، بغية دعم عملية صنع القرار التي تسهم في بناء دولةٍ أكثر استقراراً ومساءلةً وازدهاراً.

وتأتي سلسلة مرصد الإصلاح هذه في إطار مسار العمل في الاقتصاد السياسي للإصلاح، ضمن مبادرة العراق في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي يقودها مدير مشروع المبادرة الدكتور ريناد منصور.