أدلى الناخبون في إقليم كردستان العراق بأصواتهم في الانتخابات البرلمانية في الإقليم في 20 تشرين الأول/ أكتوبر، وذلك بعد أكثر من عامين من الموعد المحدد لها. وفي غضون ذلك، كان برلمان كردستان معطّلاً، وعمل مجلس وزراء حكومة إقليم كردستان بموجب سلطة قانونية مشكوك فيها. وقد أتاح هذا الفراغ، واستمرار غياب الوحدة بين الحزبين الكرديين الرئيسيين – الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني – للحكومة الاتحادية العراقية بترجيح كفة ميزان القوى لصالحها. وقد أصبحت شرعية الإقليم شبه المستقل، الهشَّة أصلاً، موضع تساؤل متزايد.
في هذه الانتخابات، فاز الحزب الديمقراطي الكردستاني بـ 39 مقعداً، مما جعله أكبر حزب، وزاد الاتحاد الوطني الكردستاني مجموع مقاعده إلى 23 مقعداً في البرلمان المكوَّن من 100 عضو. وجاء حزب الجيل الجديد، وهو حزب شعبي معارض، في المرتبة الثالثة وفاز بـ 15 مقعداً. وحصلت عدة جماعات معارضة أخرى أصغر، وأحزاب إسلامية، وأقليات عرقية ودينية على المقاعد المتبقية. كانت نسبة الإقبال أفضل من المتوقع، إذ بلغت 72% من الناخبين المسجَّلين، مع أننا إذا أخذنا في الاعتبار جميع الناخبين المؤهلين، فإن هذه النسبة تنخفض إلى نسبة أقل إثارة للإعجاب إلى حدّ ما وهي 55%.
وبانتخاب برلمان جديد، يتعيّن على القادة السياسيين في إقليم كردستان الآن الشروع في العملية الصعبة لتشكيل الحكومة وتعيين حكومة جديدة للإقليم. ستكون هذه مهمة صعبة للغاية، وستؤدّي نتيجة الانتخابات غير المتوازنة والتوترات بين الحزبين الحاكمين المبادرات السياسية الرئيسية إلى جرِّهِما إلى الوحل الحزبي، مما سيُفضي إلى تسييسٍ سيطال حتى البرامج التكنوقراطية المباشرة. وقد أدى الانقسام السياسي والخلل الوظيفي إلى عرقلة إقليم كردستان وتنميته. إذ ينبغي الحكم على الإصلاحات ليس فقط مِن مدى براعتها، بل من خلال نجاح تطبيقها في الإقليم بأكمله.
بعد الانتخابات الأخيرة التي جرت في أيلول/ سبتمبر 2018، استغرق الأمر بالأحزاب 10 أشهر لتقاسُم المناصب العليا والوزارات والمناصب الأخرى. ومنذ ذلك الحين، تصاعدت حدة التوترات بين الحزبين الحاكمين – الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني – وانهارت علاقة العمل بينهما. وستكون الأشهر القادمة (وعلى الأرجح أطول من ذلك) قاسية ولن تؤدي سوى إلى مزيد من الضرر لإقليم كردستان إذا طال أمد تشكيل الحكومة. وفي مثل هذا السيناريو، فإن ما تبقى من الحكومة السابقة سيبقى في مكانه، ولكن بقدرة أقل بكثير على متابعة الإصلاحات، نظراً لسلطتها التي ستكون موضع تشكيك فيها عند تقديم التشريعات إلى البرلمان الجديد. كما ستغتنم القوى الانتهازية في بغداد وإقليم كردستان أيّ فرصة لتقويض مبادرات الإصلاح من خلال المحاكم.
ومن الأمثلة البارزة على حالة الخلل الحالية وكيف أن التناحر السياسي الداخلي يخنق الإصلاح، عدمُ وجود طريق مزدوج حديث بين عاصمة الإقليم أربيل ومدينة السليمانية – وهما أكبر مدينتين في إقليم كردستان ولكنهما تقعان في منطقتين سياسيتين منفصلتين. وبدلاً من بناء شبكة نقل على مستوى الإقليم، ركَّز الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني على خدمة المناطق التي يسيطران عليها. لذا فإنّ شبكات الطرق بينهما ضعيفة. وهذا يضرّ بالوحدة السياسية والتنمية الاقتصادية على حدّ سواء. ومن دون حكومة جديدة وموحَّدة ومُمَكَّنة، فإنّ هذا النمط من نموذج تغليب المصالح الذاتية سيقوّض جميع مبادرات الإصلاح والتنمية.
الخصومة والجمود بين الأحزاب الرئيسية
من الواضح أن الحزب الديمقراطي الكردستاني يريد أن يحكم من دون الاتحاد الوطني الكردستاني، متخلياً بذلك عن عقود من الحكم المنقسم ولكن التعاوني. وكان الهدف الاستراتيجي الرئيسي للاتحاد الوطني الكردستاني في الانتخابات هو إثبات أنّ التوازن مع الحزب الديمقراطي الكردستاني لا يزال قائماً. وهذان الهدفان الاستراتيجيان متعارضان بشكل أساسي – وهذا وحده يجعل التوصل إلى اتفاق أمراً صعباً. ولتحقيق انفراجة، سيتعين على الحزبين أن يُنحِّيا جانباً النموذجَ السياسي الأساسيّ – إذ يحاول الحزب الديمقراطي الكردستاني إضفاء الطابع الرسمي على هيمنته، بينما يحاول الاتحاد الوطني الكردستاني إعادة تأكيد التوازن – الذي تطور على مدى السنوات القليلة الماضية.
سيحث الشركاء الدبلوماسيون لإقليم كردستان الطرفين على التعقُّل والتفكير في ما يتجاوز مصالحهما الذاتية الضيّقة، والتوصل إلى حلول وسط كما فَعَلا خلال عملية تشكيل الحكومة الأخيرة. ولكن هنا يكمن اختلافٌ كبير آخر عن عام 2018. فمنذ ذلك الحين، برز جيل جديد من القادة في كل حزب، حيث تولّى مسرور بارزاني إدارة العمليات اليومية للحزب الديمقراطي الكردستاني، وتصدّى بافل طالباني للعديد من المنافسين لجعل الاتحاد الوطني الكردستاني في وضعٍ أكثر انسجاماً. ويعتمد موقف كل منهما على قدرة كلّ طرفٍ على الحصول على أكبر قدر ممكن من المناصب مِن دون أن يتنازل أحدهما للآخر. وهذا من شأنه أن يعرقل جهود الإصلاح في ظلّ المواقف الحزبية حول المسائل المتعلقة بمن يستفيد أكثر من غيره وأين، في أيّ سياسة معينة.
كان السؤال الرئيسي خلال الحملة الانتخابية هو ما إذا كان بارزاني سيتمكن من شغل منصب رئيس الوزراء لفترة أخرى. وقد أعلن الاتحاد الوطني الكردستاني أنّ ذلك لايمكن أن يحدث أبداً، لكن فوز الحزب الديمقراطي الكردستاني القوي في الانتخابات يعزّز بالتأكيد وضع بارزاني. وإذا ما أريدَ التوصل إلى اتفاق، سيتعين على الاتحاد الوطني الكردستاني أن يتراجع عن هذه التصريحات بينما يجبر الحزب الديمقراطي الكردستاني منافسه على تولّي أقلّ المناصب قوة. سيكون مثل هذا الإذلال غير مقبول لطالباني.
في الواقع، هناك عنصر شخصي في تنافسهما. وبصراحة: يبدو أن بارزاني وطالباني كانا يُبغضان بعضهما بعضاً بشدة حتى قبل الحملة الانتخابية. والآن، بعد أسابيع من الهجمات السياسية والتهكّمات الشخصية المهينة، أصبح هذا الشعور أعمق بكثير. ربما ينظر طالباني إلى ذلك كجزء من اللعبة السياسية، لكن بارزاني معروف بحساسيته الشديدة ولن يستخف بهذه المُلاسنات.
وفي الوقت نفسه، فإن شاسوار عبد الواحد، الزعيم المتشدّق لحزب الجيل الجديد سيشعر بالانتعاش بعد النتيجة الجيدة التي حققها حزبه. ومن شأن ذلك أن يجعل سياساته الشخصية أكثر تقلُّباً وسيؤدي إلى استخدام الإصلاحات السياسية كسلاح. ويتجلى ذلك بالفعل في خلافات الحملة الانتخابية حول برنامج “حسابي” MyAccount المصرفي الخاص بحكومة إقليم كردستان، الذي وصفه طالباني بـأنّه “حساب مسرور”.
تنتظرنا خيارات صعبة
من أجل تشكيل حكومة لإقليم كردستان تضمّ الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني، يجب على المفاوضين أن يشقّوا طريقهم في هذه التوليفة الصعبة من الطموحات الحزبية المتنافرة، والنظام الذي يكافئ المصلحة الذاتية الإستراتيجية، والشَّحناء الشخصية بين اللاعبين الرئيسيين.
وإذا لم يتمكن الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني من تشكيل حكومة بسرعة، فإن الوضع سيؤدي حتماً إلى أوجه شبه عديدة مع فترة الإدارة المنقسمة التي كانت قائمة في إقليم كردستان بين عامي 1998 و2006. فالحزب الديمقراطي الكردستاني مهيمنٌ بالفعل على محافظتَي أربيل ودهوك، فيما يسيطر الاتحاد الوطني الكردستاني على السليمانية. وإذا لم يتمكّنا من تشكيل حكومة إقليم كردستان الموحّدة، فسوف يتحوّلان تدريجياً إلى الداخل ويركّزان فقط على مناطقهما. وهذا أمر يحدث بالفعل، ولكنه سيتسارع.
وفي حين أن المقارنة مع تلك الترتيبات السابقة تبدو مناسبة في ظاهرها، إلا أن هناك اختلافاً كبيراً مع ما يحدث اليوم. فإقليم كردستان الآن جزء من العراق الدستوري والاتحادّي. وأيّاً يكن، ستلعب بغداد دوراً مهماً في مستقبله. ففي السنتين اللتين انقضتا خلال فترة التأخير الانتخابي، أقحمت الحكومة الاتحادية نفسها بقوة في الشؤون الداخلية لإقليم كردستان باستخدام المحاكم والميزانية.
أحد الاحتمالات هو أن يتفاوض السياسيون في بغداد على حلّ أو يتحايلون أو يفرضون حلاً على الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني المتذمِّرَين من خلال مزيج من الإغراء وليّ الذراع، بمساعدة من طهران وأنقرة وواشنطن. ستصل النتيجة إلى نتيجة مُدبّرة على عجل تتجاهل إلى حدٍّ ما الديناميات السياسية الداخلية لإقليم كردستان، ولكنها تخدم أهدافاً جيوسياسية أكبر.
وبدلاً من ذلك، قد يُنفِّذ الاتحاد الوطني الكردستاني ما كان يهدد به بشكل غير مباشر خلال العامين الماضيين ويقيم علاقة منفصلة مع بغداد. وهذا من شأنه أن يتيح للاتحاد الوطني الكردستاني تجاوز حكومة إقليمية يهيمن عليها الحزب الديمقراطي الكردستاني والحصول على مزايا مباشرة من بغداد. سيكون هذا رد فعل متطرّف ولن يأتي إلا بعد استنفاد جميع الخيارات الأخرى. ومن شأن هذا أن يُلحق ضرراً لا يمكن إصلاحه بإقليم كردستان ككيان ويدمّر العلاقة بين الطرفين تماماً. ولا يمكن تحقيق هذا إلا بالتنسيق مع بغداد، التي قد تقاوم، ولكن الإطار القانوني موجود بالفعل لبدء العملية.
سينظر الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني وسكان إقليم كردستان الآن في الخطوات التالية. ومن غير المرجّح أن يحدث أي شيء على الفور، فاللعب على الوقتِ تكتيكٌ عريق في السياسة الكردية. ولن يؤدي ذلك إلّا إلى تعميق التوترات الحزبية وإعاقة جهود الإصلاح. وسوف تُسيّس المقترحات على الفور، حتى لو كانت ستعود بالنفع على شعب إقليم كردستان. إنّ أمامنا أوقاتاً عصيبة ما لم يكن بالإمكان دفع الحزب الديمقراطي الكردستاني والاتحاد الوطني الكردستاني نحو التوصل إلى اتفاق دون تأخير.
وهذه السلسلة جزء من مسار العمل في الاقتصاد السياسي للإصلاح، ضمن إطار مبادرة العراق في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا التي يقودها مدير مشروع المبادرة الدكتور ريناد منصور.