أرصدة الكربون: طريقة أخرى لتأخير العمل الجادّ بشأن تغيّر المناخ في العراق

في شباط/ فبراير 2025، أعلنت وزارة البيئة العراقية عن أول مشروع تطلقه الشركة العامة لإقتصاديات الكربون بالتعاون مع برنامج الأغذية العالمي لإدخال غابات المانغروف إلى شواطئ البصرة. وتهدف الشركة، التي تأسست في آذار/ مارس 2024، إلى قيادة جهود البلاد في مجال إزالة الكربون، بما في ذلك محاولتها الأخيرة لدخول سوق أرصدة الكربون الدولية. وبموجب هذا المخطط الجديد، من المفترض أن يتمكن الملوِّثون من شراء أرصدة الكربون لتعويض انبعاثاتهم من خلال مشاريع مختلفة لإعادة التشجير والحفاظ على البيئة، بما في ذلك مبادرة غابات المانغروف.

ولكن الدراسات بيّنت أن تعويض الكربون لا يؤدي إلى أي تخفيضات ملموسة في الانبعاثات. كما أنه عرضة للفساد على نطاق واسع، فضلاً عن كونه حلاً تقنياً وتجاريًا لمشكلة تغير المناخ. وعلى هذا النحو، فبدلاً من أن تُبشّر بعهد جديد من الاستدامة للعراق، كما هو موضح في إعلان وزارة البيئة، يبدو أن أرصدة الكربون لن تؤدي سوى إلى سياسة وطنية لتأخير وعرقلة اتخاذ إجراءات ذات مغزى بشأن تغير المناخ. وبدلاً من ذلك، فإن ما يحتاجه العراق يتمثّل في نهج تعاوني يجمع أصحاب المصلحة الوطنيين الرئيسيين، ويكون مدعوماً بالخبرات الدولية، للدعوة إلى مواقف وطنية ودولية موحدة بشأن سياسة المناخ.

منطق الإصلاح

طيلة سنوات، سعى الأكاديميون في جنوب العراق، وبدعم من المنظمات الدولية، إلى إدخال أشجار المانغروف إلى المنطقة كوسيلة ”لإصلاح“ الأضرار البيئية الناجمة عن عقود من النزاع المسلح والتلوث الصناعي والسياسات الحكومية غير الملائمة. وهذا ليس فقط لأن أشجار المانغروف قادرة على تحمّل البيئات المالحة والملوثة، بل لأنها أيضاً من بين أكثر النظم البيئية فعالية في عزل الكربون. فهي تستخدم أنظمة جذورها الواسعة لحبس الرواسب والمواد العضوية، مما يحبس الكربون في كتلتها الحيوية والتربة المحيطة بها لفترات طويلة. وهذا ما يجعل غابات المانغروف جذابة لتعويض الكربون.

مع ذلك، لطالما جادل منتقدو أرصدة الكربون بأنها تعمل كآلية تبييض بيئية تتيح للصناعات المسببة للتلوّث ”العمل كالمعتاد“، بينما تُمكّنها من الاختباء وراء شعارات الاستدامة ومسؤولية الشركات. وهذا يضفي الشرعية على الدولة والشركات المسببة للتلوث، ويعمل في الوقت نفسه على تهدئة مقاومة الصناعات الضارة بالبيئة. وهكذا، بينما تستثمر الحكومة العراقية في زراعة أشجار المانغروف في البصرة، تقوم في الوقت نفسه بقطع غابات النخيل لإفساح المجال لبناء الجسور والمباني السكنية الشاهقة، وتجفيف أجزاء من الأهوار بهدف ”تأمين“ حدود البلاد. إن هذه الغابات والأهوار أنظمة بيئية غنية موجودة منذ آلاف السنين، والحفاظ عليها لا يقل أهمية عن زراعة أشجار المانغروف لأغراض احتجاز الكربون.

يستغرق امتصاص انبعاثات الكربون من الغلاف الجوي مئات السنين، ومن المستحيل التنبؤ بما إذا كانت أشجار المانغروف المزروعة حديثاً ستدوم كل هذه المدة. وعلاوة على ذلك، ثمة شكوك بين بعض أفراد الأوساط العلمية في البصرة حول ما إذا كانت هذه النباتات غير المحلية قادرة على العيش في بيئة المحافظة غير المواتية أم لا، وكذلك حول الأضرار التي قد تتسبب بها مثل هذه المبادرات، بما في ذلك من خلال إدخال أنواع متطفلة.

في العراق، حيث ينتشر الفساد المُقرُّ سياسياً، من السهل استغلال أرصدة الكربون. فهي تعتمد على حساب كمية الانبعاثات التي من المحتمل أن تُطلق في حال عدم وجود مشروع معيّن لتعويض الكربون. وبينما وقّع العراق اتفاقيات مع العديد من الشركات الدولية للإشراف على عملية أرصدة الكربون، فإن عدد أشجار المانغروف التي قد تكون مطلوبة لامتصاص انبعاثات أي ملوث واحد، على سبيل المثال، سيبقى غامضاً ومبهماً، مما يترك مجالاً كبيراً للتلاعب. وكما سبق وأن كتبتُ في مكان آخر، فإن مشاريع إعادة التشجير في البصرة قد تم انتقادها لإرتباطها مخططات لاختلاس الأموال من خلال العقود الحكومية، وهو اتجاه من المرجح أن يزداد مع توسيع نطاق مخطط أرصدة الكربون.

تُوفّر مخططات أرصدة الكربون حلاً تقنياً وتجاريًا لأزمة المناخ. وفي حالة مبادرة الحكومة الخاصة بغابات المانغروف، فإن هذا يتوقف على تسليع غابات المانغروف نفسها، وتأطيرها كوسيلة لعزل الكربون قبل كل شيء. في الواقع، لا يختلف هذا الفهم للطبيعة عن ذلك الفهم الذي جعل العراق أحد أقوى المعارضين للتخلص التدريجي من الوقود الأحفوري المقترح في مسودة الاتفاق النهائي لمؤتمر الأطراف الثامن والعشرين. وتتردد أصداء هذا المنطق أيضاً في بيان وزارة البيئة الذي أعلنت فيه عن التعاون مع برنامج الأغذية العالمي، والذي أكد على أن أرصدة الكربون ستعمل على دعم تنمية الاقتصاد. إن هذا كله إنما يشهد على المنطق الليبرالي الجديد الذي جعل انهيار المناخ ممكناً في المقام الأول.

نحو سياسة مناخية شفافة وشاملة في العراق

في العراق، كما هو الحال في أي مكان آخر، هناك حاجة إلى تحول جوهري في السياسة وإعادة التفكير الجذري في التركيز على الحلول التجارية لاتخاذ إجراءات مُجدية بشأن تغير المناخ. وهذا يعني أن على البلاد أن تتبنى نهجاً تعاونياً في المفاوضات الدولية بشأن المناخ، بدلاً من الاستمرار في اتباع سياسة العرقلة والتأخير، مثلما يتجلى في التحول إلى أرصدة الكربون. ومن شأن هذا النهج التعاوني أن يسلط الضوء على الحاجة إلى الحوار المستمر والعمل المشترك بين مجموعة واسعة من الجهات الفاعلة، بما في ذلك الإصلاحيين داخل المؤسسات الحكومية وأعضاء المجتمع المدني والأكاديميين والباحثين في مجال البيئة، مع الاستفادة من الخبرات الدولية.

ومن شأن هذا التحالف أن يضمن أن تكون سياسات العراق المناخية شفافة وشاملة ومرتكزة بقوة على البحث العلمي من خلال الضغط على صانعي السياسات لإعطاء الأولوية للاستراتيجيات البيئية الحقيقية طويلة الأجل بدلاً من الحلول المؤقتة. ويهدف اعتماد هذا النهج إلى تأمين مصالح العراق الفضلى في مواجهة المخاطر المناخية المتصاعدة على المستوى الوطني وفي المحافل الدولية. ومن بين الخطوات الأولى التي يمكن أن يعمل عليها هذا التحالف هي الدفع باتجاه تطبيق حماية بيئية أكثر صرامة، بدءاً بالتبني السريع للقانون المعدَّل لحماية وتحسين البيئة.

 

هذه المقالة جزءٌ من سلسلة مرصد الإصلاح التي ينشرها تشاتام هاوس، وتهدف إلى تقديم رؤى متعمقة حول المجريات الداخلية للحكومة العراقية، وتقييم ما يمكن للتطورات الأخيرة – المعلنة وتلك التي وراء الكواليس – أن تكشفه بشأن آفاق الوصول إلى دولة عراقية أكثر استقراراً وازدهاراً وخضوعاً للمساءلة. كما يهدف مرصد الإصلاح إلى تقديم توصيات سياساتية للحكومة العراقية وصنّاع القرار الدوليين والمنظمات المتعددة الأطراف والمنظمات غير الحكومية العاملة في العراق، بغية دعم عملية صنع القرار التي تسهم في بناء دولةٍ أكثر استقراراً ومساءلةً وازدهاراً.

وتأتي سلسلة مرصد الإصلاح هذه في إطار مسار العمل في الاقتصاد السياسي للإصلاح، ضمن مبادرة العراق في برنامج الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، التي يقودها مدير مشروع المبادرة الدكتور ريناد منصور.